وحشة الحجل

63
16997561_1577929445555229_1494406702_n
طه خليل

زاوية يكتبها طه خليل

يقال أن صحفيا سأل الزعيم الكردي ملا مصطفى برزاني عن حدود كردستان. فأجابه الزعيم الكردي بشاعرية وتورية لا تخلو من مقاصد شتى : ” حدودنا حيث يوجد الحجل ”

والحقيقة أن الحجل ينتشر في كردستان بكثرة، فهو طائر جبلي، يعيش بين الصخور وعلى القمم، ولهذا فقد نشأ بينه وبين الكرد قصصا وتعابير وحكايا كثيرة، فهناك في كردستان أسواق خاصة به، لبيعه وشرائه أو لإقامة المباريات بين الذكور، فالذكور بطبعها عدائية تجاه بعضها، وما أن يجد ذكر ذكرا غريبا حتى يهجم عليه، وعلى أحدهم أن يرضخ للآخر وإلا فلن تستقيم حياة بينهما، ويبدو أن الكثيرين من القائمين على شؤون الأمة قد فهموا الأمر معكوسا، فما أن يجدوا غريبا حتى يرضخوا له، ويعيشون أذلاء يسيرون خلفهم أينما ساروا ويقفون مطأطئين في المحافل كأسرى، ضاربين بعرض الحائط شموخ زعيم كردي كبير أشار للحجل يوما وكأنه استقرأ تاريخا سينهض من جنيف مثلا.

ولكن أكثر ما يتداوله الكرد عن الحجل هو أنه خوّان بقومه، غدار ببني جلدته، واستقوا هذه الصفة بهتانا وظلما من طريقة صيده، التي تتلخص بأن يربط الصيادون ذكرا، ويحيطونه بالشباك، ويتخفون، فيبدأ الذكر بالغبغبة والصياح، وما أن يسمعه الحجل حتى يهجم عليه لطرده، فيقع في الشباك المنصوبة حوله. تلك مصدر ما ينعته الكرد به.

والواقع أن المسألة ليست كما يتصوّره مدبّجو الذاكرة “الكوووردية ” ومؤرخو الأمة، فالحجل يعيش في جماعات صغيرة يجري على الأرض بسرعة كبيرة وله قدرة كبيرة على التخفّي والتمويه بين الصخور والأحراج، يساعد في ذلك لونه الرمادي والبني الذي لا يختلف عن لون البيئة المحيطة، وعند الشعور بالخطر يصدر أصوات تحذير مميّزة، فهو يعيش جماعات في مستوطنات يدافع عنها، ولا يسمح لأسراب أو لأفراد أخرى من الحجل أن تقتحمها، وعندما يسمع صوت الغريب يهجم عليه، لطرده، وليس لتخليصه من الأسر كما يقول دعاة التاريخ، فيقعون في شباك الصياد ” الكووردي “. فهو طائر حسّاس جدا، مرهف السمع، غيور على أهله وسربه، أكثر من الكثيرين ممن يرتدون الياقات و” الكرافيتات ” الحمراء ويقفون وراء عنصريين تفوح منهم نتانة التاريخ كله.

قال الجاحظ: ” وإذا باضت الحجلة ميزّ الذّكر الذكور منها فيحضنها، وميزّت الأنثى الإناث فتحضنها، وكذلك هما في التربية. قال: وكلّ واحد منهما يعيش خمساً وعشرين سنةً والذكر شديد الغيرة على الأنثى. فإذا اجتمع ذكران اقتتلا، فأيّهما يغلب ذلّ له الآخر.”

ما لفت نظري في الحجل أنه يشبه ” الكراكي ” في حماية سربه، فالكراكي يختار حارسا يقف طيلة الليل على رجل واحدة كي لا ينام  يحرس السرب النائم، فإن استشعر خطرا أصدر صوتا ليطير السرب، وإن غفى فإن رجله تقع على الأرض فيصحو، وكذلك الحجل حين يرِد الماء، يقف في طابور ويشرب من في المقدمة ويحرسه بقية الطابور، وحين ينهي الشرب يعود ليقف بآخر الطابور فيحرس وهكذا حتى يشرب الكل ويغادر.

فليس الحجل خائنا، ولم يسوّر الزعيم الكردي التاريخي حدود كردستان بطيور الخيانة، بل إن وحشة الزمن جعلت من يلبّس خيانته للحجل زورا، ويبرّر وقوفه الذليل وراء عنصريين حمقى ينالون من أهله، وهنا لي حجل في روجآفايي كردستان التي تنهض صباحاً بضوء من عينين فيهما بريق حياة، وتعب ترميه وراء الباب كل ليلة وتهمس لي: تعبت وأحبك.

نشرت هذه المادة في العدد 60 من صحيفة Buyerpress تاريخ 1/3/2017

33311

التعليقات مغلقة.