بيترهاندكه يفوز بجائزة إبسن الراقية بين ترحاب واعتراض

29

993c43cd7031466d8fdac9b439780bea

ربما لم يكن الكاتب النمسوي بيتر هاندكه ينتظر استقبالاً شعبياً حاراً أو حفاوة كبيرة عندما سافر الأحد 21 أيلول (سبتمبر)، إلى أوسلو ليتسلم جائزة الكاتب المسرحي هنريك إبسن المرموقة لعام 2014، فمنذ سنوات و «لعنة ميلوسوفيتش» تطارده. ولكنه بالتأكيد لم يكن يتوقع تظاهرات تنعته بـ «الفاشي» بسبب موقفه من الحرب في البلقان في تسعينات القرن الماضي، ووقوفه مع الصرب وهجومه على حلف الناتو لتدخله لإيقاف جرائم الحرب التي ارتكبها نظام ميلوسوفيتش.

آنذاك، لم يكتف هاندكه بإعلان موقفه من الحرب، بل سافر في عام 2006 إلى صربيا ليشارك في جنازة الديكتاتور الصربي ملقياً خطاباً أمام قبره. انحاز هاندكه إلى الصرب، واتخذ موقفاً يعتبره كثيرون – وأعتبره شخصياً – موقفاً سياسياً خاطئاً.

ولكن هل ينطبق وصف الفاشي عليه وعلى أعماله؟ من الممكن القول: إنه ساند – بالكلمة – ديكتاتوراً فاشياً، ولذلـــــك استحق هذا النعت، وإن محاولاته العديدة لشرح موقفه لا تغير في الأمر شيئاً. رغم كل شيء يُحسب لبيتر هاندكه تحليه بالشجاعة، وتحمله عواقب إعلان رأيه.

حدث مع هاندكه ما يحدث كثيراً في عالم الأدب: الموقف السياسي للكاتب يطغى أحياناً على إبداعه الأدبي. وعندما يتخذ الكاتب موقفاً تراه الغالبية خاطئاً، يتوارى الاهتمام بأدب الكاتب مهما كان عظيماً. لقد أرادت لجنة تحكيم جائزة إبسن تكريم أدب هاندكه «المدهش في تنوعه»، ولذلك منحته هذه الجائزة القيمة التي تبلغ 2.5 مليون كرونه نرويجي، أي ما يزيد على 300 ألف يورو. أعمال هاندكه المسرحية – تقول اللجنة – تتجاوز كل ما انتجه زملاؤه من كتاب الدارما، وهو ما دفع أحد أعضاء لجنة التحكيم إلى اعتبار هاندكه خليفة لرائد المسرح الملحمي برتولت بريشت.

وبالفعل تتميز أعمال بيتر هاندكه – الذي سيبلغ الثانية والسبعين في كانون الأول (ديسمبر) المقبل – بالغزارة والتنوع المدهش، ما بين الرواية والقصة والشعر والمسرح والمقالة والتأملات والترجمة. ومن أعماله المشهورة «كاسبر»، و«المرأة العسراء»، و«خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء» و«دون جوان» و«حكاية للأطفال». في عام 1999، وبعد أن تزايد الهجوم عليه إزاء موقفه العنيد من الحرب في البلقان، أعلن هاندكه أنه سيعيد القيمة المالية لجائزة بوشنر، التي حصل عليها عام 1973، وذلك احتجاجاً على موقف المثقفين الألمان من حرب البلقان. فعل هاندكه ذلك حتى يحتفظ بصدقيته. وفي عام 2006 – أي في العام الذي شارك فيه في جنازة ميلوسوفيتش – قررت لجنة تحكيم مستقلة الاحتفاء بالمنجز الأدبي لهاندكه، ومنحه جائزة الشاعر هاينريش هاينه التي تعطيها مدينة دسلدورف، والتي تبلغ قيمتها خمسين ألف يورو. وثارت الانتقادات، واحتج مجلس مدينة دسلدورف على قرار اللجنة المستقلة. شعر هاندكه بالإهانة وتخلى طواعية عن الجائزة ونقودها.

يوم الأحد الماضي تكرر الموقف نفسه تقريباً. لجنة جائزة إبسن تحتفي بهاندكه الأديب، لكن هذا الاختيار يثير انتقادات سياسية في النرويج، ويتسبب في اندلاع تظاهرات البوسنيين والألبان الذين يعيشون هناك الذين اختزلوا الكاتب في موقفه السياسي من قضية صربيا. لم يتجاهل هاندكه المتظاهرين، وتوجه إليهم «لينظر في عيونهم»، كما قال لوكالات الأنباء.

وعلى ما يبدو أثرت فيه الهتافات، ونكأت جرحاً لم يندمل عنده، فقرر تنازله – هذه المرة أيضاً – عن قيمة الجائزة الضخمة، متبرعاً بجزء منها لبناء مسبح للأطفال في كوسوفو، أما باقي الأموال فقد أوصى بإعادتها إلى خزينة الدولة النروجية.

عندما نقرأ عن موقف هاندكه واستعداده لتحمل تبعات آرائه، مهما اعتبرها الآخرون خاطئة، وتبرعه بمال كثير لتأكيد مصداقيته (وإن كان بالتأكيد ليس معوزاً)، فلا بد أن نتساءل: كم من مثقف عربي حصد مال جوائز ضخمة تحمل اسم هذا الحاكم المستبد أو ذاك، وبمجرد أن يصرف شيك الجائزة ينهال سباباً على ديكتاتورية هذا الحاكم أو تخلف بلاده؟ وكم من مثقف عربي حاز جائزة حاكم عربي، وعندما تبدلت الأمور، وتغير الزمان، يعلن تنازله عن الجائزة – ولكن مع احتفاظه بالمال طبعاً؟ كما نستحضر أيضاً موقف كتّاب حافظوا على مصداقيتهم، كالروائي صنع الله إبراهيم عندما رفض جائزة الرواية العربية عام 2003 في عز سطوة نظام مبارك الفاسد.

عن الحياة

التعليقات مغلقة.