مفارقات الحرب على الارهاب

29
118
دلال البزري

هذه الحرب الجديدة على الارهاب، كان بوسع حرب أخرى ان تتجنبها؛ تلك التي تراجع عنها أوباما منذ سنة، بعدما تخطت دمشق خطوطا حمراء كان وضعها بنفسه، بحربها الكيميائية على شعبها. ما كان وقتها لـ”داعش” أن ينمو. هذه الحرب تقودها دولة، ما زال رئيسها متردداً بالغوص في غمارها. يختلف مع كبار ضباطه في حاجتهم إلى رجال الأرض، ويعدِنا في الوقت نفسه بأنها سوف تدوم ثلاث سنوات (فقط؟). ما الذي دفع أوباما الى اتخاذ قراره بها مرغماً؟ ذبح الصحافيَين الأميركيَين؟ إكتشاف جهاديين أميركيين بين صفوف الجهاديين؟ ميل غالبية الرأي العام الاميركي لخوضها؟ موافقة الجمهوريين، منافسيه، بل حماستهم من أجلها؟ مجابهته لتوغل بوتين شرق اوكرانيا، واستيلائه على جزيرة القرم؟ “اميركا في حرب دفاعا عن مصالحها”؛ وهذا سبب، هو وحده الوجيه. وليس، كما يحب أن يكرر كارهو أميركا، في نبرة إدانة عالية. وكأن اتخاذ أي قرار، سياسي أو عسكري، لا يكون جديراً إلا إذا كان ضد مصلحة صاحبها. ولكن تقديرنا للمصالح كلها لا يفهمنا ما هي بالضبط تلك المصالح.

ليس هذا فحسب. الأطراف المدعوون الى المشاركة والتنسيق في هذه الحرب، لا يختلفون كثيرا عن القيادة الاميركية. العراق، وحده، من بين العرب، سيرفد الرجال الى الحرب، بحكومته الجديدة القديمة، باحياء “الصحوات”، بالتوهم بأن جيشه الرسمي سوف ينسق مع الكرد و”الصحوات”… تلك الحرب، دول الخليج تريدها، ولكن باستحياء، من دون تطبيل وتزمير. ربما لديها خشية من رأيها العام، او من إهتزاز استثماراتها، أو إن داعمي الإرهاب من أبنائها، بالمال خصوصاً، ليسوا مجرّد مواطنين بسطاء. أوروبا منقسمة حولها، ومتفاوتة الحماسة. فرنسا في المقدمة بطياريها، وبريطانيا أقل منها، لن ترسل أكثر من الطائرات، فيما ألمانيا وبقية الدول تلتزم بارسال العتاد والمساعدات الإنسانية. أما تركيا، التي يدقّ الإرهاب أبوابها، بعدما شرعت له حدودها، فمتحفّظة عليها؛ تخشى على تجارتها النفطية مع “داعش”، وتخاف صعود قوات “حزب العمال الكردستاني”، التركي، بتعاونه مع البيشمركة، العراقي؛ وهذه الاخيرة، هي طليعة القتال، وربما هي الوحيدة الجدية في مشاركتها به، هي الوحيدة الموعودة بدولة. فيما مصر والأردن وإسرائيل سوف يزوّدون قيادة هذه الحرب بمعلوماتهم الاستخبارية. انها، حرب “ألا كارت” (àla carte)، كما يصفها أحد الجنرالات الفرنسيين.

ولكن، من الملفت ان الدولتين الأكثر إستعدادا للمشاركة في هذه الحرب، هما المستبعدتان تماما منها، على الأقل إعلامياً. والدولتان هما سوريا وايران. الأولى، سوريا، قدمت عروضاً، وكان جواب القيادة الاميركية عليهم ب “كلا!”. ولكنها أبقت الباب موارباً، وأبقت الامل في قلب بشار. فيما إيران قامت بالعكس، نظراً لعزتها القومية؛ فادّعت بأنها رفضت عرضاً أميركياً بالمشاركة في هذه الحرب. وإذا قررنا بابسط قواعد الحروب، فان الحرب ضد “داعش”، سيكون مسرحها كل من العراق وسوريا؛ أي في تلك الاراضي التي تسيطر عليها قوات سورية، إيرانية، أو موالية لإيران، والخاضعة لحرب “داعش” عليها. “موضوعياً”، هناك التقاء بين مصالح هؤلاء المعادين لـ”داعش”؛ ولكن “الموضوعياً” هذه ليس لها ترجمة إلا خلف ستار مسرح العمليات. وهذه مفارقة أخرى من مفارقات الحرب على الارهاب.

انها حرب بلا قانون. حرب بلا منطق بياني صارم. معقدة، مترددة، ضعيفة، من غير ان تكون بريئة. تتناقض مصالح الشركاء فيها، تتداخل، تحسب علناً وسراً؛ ربما تتحول، فتعود مثلا الجيوش الأميركية إلى الأرض، أو تتبدل، فتصبح قائمة بين دعاتها وبين المعارضين لها، بين قيادة أميركية وقيادة روسية-صينية. وهي حرب تحمل كل أسباب فشلها: نظيرتها السابقة، الحرب على “القاعدة”، لم تنجح إلا في تأجيج المزيد من التطرف الجهادي. اليوم تشن الحرب ضد جيل آخر من هذه الجهادية، وبالأسلوب نفسه.

سوف يكون من المستحسن هنا أن نقول بأن البديل عن هذه الحرب، أو في أفضل الاحوال، إحتمالات نجاح هذه الحرب مرهونة بالتريبات السياسية، من نوع اعطاء السنة حقوقهم واشراكهم في القرار الخ. ولكن، حتى نظرياً، هذا الكلام تبين خطؤه مئة مرة خلال العقود الماضية؛ فمهما دققت في تقسيم الجبنة بين الطوائف، لن تكون هذه القسمة عادلة، لسبب بسيط، ان لكل طائفة اسبابها للنزول والصعود، وهذه الاسباب متقلبة، وبالتالي لن تسكت طائفة على حصتها، إلا آنياً. ما من حل سياسي حقيقي متوفر. والحرب اشارة بالغة الى غياب هذا الحل السياسي؛ فهي لا تنبىء بأن خاتمتها، البعيدة، سوف تأتي بحكم صالح وعادل.

بل ان هذه الحرب، فوق الخراب العميم الذي ستخلفه وراءها، ستعيدنا الى عقلية “ممانعة” جديدة، براية سنّية هذه المرة، تحمل شعار العداء لـ”الصليبية” الأميركية الغربية. وخذْ ساعتها على خراب عقول جيل جديد، فتي، مجند لحروب متنوعة، بدائية، الكترونية، كيميائية… لا نهاية لها.

عن المدن

التعليقات مغلقة.