ويسألونك عن الكتابة في زمن الدم/عماد فؤاد
أن تدخل غرفتك في الليل، مستأنساً بوحدتك، متآلفاً مع ذاتك أو نافراً منها، غاضباً أو حانقاً أو راضياً، لا يهمّ، المهم أن تعرف كيف تخرج ما بداخلك على الورقة التي تنفتح أمامك بيضاء منتظرة الحرف الأول. هذا الطقس السحري الغريب، الذي تترجم فيه ما يعتمل داخلك من براكين أو أفكار أو هواجس أو آلام، في كلمات تتراص جوار بعضها البعض، هذا الفعل السحري المثير الذي أفتقده منذ زمن، والذي صار بعيداً مني، حتى لكأنّي لم أكتب أبداً، ولم أجرب كتابة الكلمة جوار الكلمة حتى تصير جملة تتبعها جملة.. فأخرى .. فغيرهما.. إلى ما لا نهاية.
الآن، والآن فقط، أشعر بوخزة ألم كلما فكرت في السنوات التي مرّت من دون أن أكتب فيها حرفاً، وفي الآن ذاته، أستغرب ممن يكتبون، وأتعجب من قدرتهم على الكتابة في ظل ما يحدث حولنا، من مجازر وبحور دم تراق كل يوم، أعرف أن الأشخاص يختلفون، ولهم قدرات تتباين وتتفاوت وتختلف، لكن أن تبدع في هذه الأجواء؟! أن تمتلك القدرة على التعبير عن ذاتك، تحت هذا العراء والجدب والبور المحيط بنا من كل جانب؟! فهذا ما لا قدرة بي عليه، أعترف أنها قدرة تفوق طاقتي، وأشعر أحياناً أنني من الذين يحتاجون أرضاً ثابتة – ولو قليلاً – تحت أقدامهم، ليمتلكوا القدرة على الكتابة، على التفكير – ولو قليلاً – في المشهد، في خلفياته وزواياه المختلفة، لأتمكّن من الإحاطة به، قبل أن أمتلك القدرة على التعبير عنه.
لا أعرف عدد الكُتّاب الذين توقّفوا عن الكتابة في فترات معينة من حيواتهم، أو بالأحرى، لا أعرف عدد الكُتّاب الذين توقّفوا لسنوات عن الكتابة ثم عادوا إليها، بأعمال جديدة شكّلت إعادة إحياء لمكانتهم التي كادت أن تتوارى، لكنني وجدت نفسي أستعيد شخصية نجيب محفوظ في المرتين اللتين توقف فيهما عن الكتابة، لأسباب ترتبط بجدوى الكتابة في حد ذاتها، حسب قناعات محفوظ الشخصية، وهو ما يذكره محمد سلماوي في إحدى فقرات كتابه عن نجيب محفوظ، مشيراً إلى أن محفوظ توقف سبعة أعوام كاملة عن الكتابة بعد اندلاع ثورة 1952، لأنه لم يكن يعرف عن ماذا يكتب، فالثورة التي حلم بها طويلاً للتخلص من حكم المستعمر وإعلان الاستقلال وتحقيق العدالة الاجتماعية، ها هي تتحقق، فيثور الجيش “الوطني” ويعزل الملك “المتآمر”، ويتم إعلان الجمهورية وتوقيع اتفاقية الجلاء، وإصدار قرارات ثورية كانت مجرد أحلام تراود “مراهقي” الثوار وقتذاك، مثل مجانية التعليم والإصلاح الزراعي وغيرها.
ثمّة تشابه ما بين اللحظة التي نحياها الآن عربياً – وليس مصرياً فقط – وبين اللحظة التي تلت قيام ثورة 1952 وجعلت نجيب محفوظ يتوقف عن الكتابة. تشابه عميق في الخلل الذي أحدثته التغيرات السياسية التي ألمت بالعالم العربي بعد اندلاع ثوارت سرعان ما انطفأت أو أطفئت أو أخمدت أو أفسدت، في حالة نجيب محفوظ حققت الثورة بعضاً من الأحلام، في حالتنا اليوم، خيبت الثورات المسلوبة كثيراً من الآمال، كثيراً جداً.
كيف يمتلك المرء رفاهية الكتابة في اللحظة التي لا يجد فيها أرضاً ثابتة تحت قدميه، كيف يجرؤ أن يفكر أصلاً في الكتابة حينها؟ أعترف بأنني أحسد الكثيرين ممن يكتبون، ممن يملكون القدرة على تحويل كل هذا الخراب والدمار إلى شيء مقدس اسمه الإبداع، وبالعودة إلى نجيب محفوظ، أجدني – كذلك – أحسد الذين استطاعوا التغلب على سنوات التوقف عن الكتابة، وعادوا من جديد بأعمال أهم وأبرز مما سبقها، محفوظ عاد بعد توقف سبعة أعوام كاملة بروايته “أولاد حارتنا” التي نقلت أعماله من مستوى الواقعية الصريحة كما في “الثلاثية”، التي كان قد كتبها قبل اندلاع الثورة، إلى مستوى آخر من الرمزية التي لم تكن موجودة في أعماله السابقة عليها، وكانت المرة الثانية التي توقف فيها محفوظ عن الكتابة في العام 1987، بعد انتهائه من رواية “قشتمر”، واستمر هذا التوقف سنوات حتى خرج علينا كاتبنا بكتاباته المختلفة والمغايرة تحت عنوان “أصداء السيرة الذاتية”، والتي شكلت بدورها مرحلة جديدة في أدب محفوظ.
كثيرون من الكتاب يلتقون ويسأل بعضهم بعضاً: ما الجديد عندك؟ وكأنّه لا بد من جديد، لا بد من الكتابة، السؤال في حد ذاته يستنكر أن لا يكون هناك جديداً، فهم كُتّاب، وعلى الكُتّاب أن يواصلوا الكتابة تحت أي ظرف، على الشاعر أن يكتب عما يحدث حوله، على الروائي أن يصوغ الحكايات للتعبير عما يحدث، وعلى كاتب المسرح أن يحول خشبة المسرح إلى مرآة تعكس الواقع الراهن، وتسمع كثيراً نصائح من كتاب عالميين للكتاب الجدد لكي يستمروا في الكتابة، في الأسابيع الماضية تواترت هنا أو هناك آلاف النصائح: لكتابة الرواية، لعدم كتابة الرواية، للتحوّل من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، لعدم الالتزام بالقوالب الأدبية المعروفة والمزج بينها لخلق قوالب جديدة، لشعرنة الرواية، إلخ.
أقولها بصدق، نحن كذابون بالفطرة، أقول كل ما سبق، وكأنّني أستنكر نصائح الكتاب لبعضهم البعض حين يصرون على القول بضرورة الكتابة، فيما أنا شخصياً أفعل الأمر نفسه في كل مرة يخبرني فيها أحدهم بأنه متوقف عن الكتابة، أجدني على الفور أبدأ في التحدث عن أهمية عدم الاستسلام لفترات الخمول والعزوف عن الكتابة، وأبدأ في تشجيعه من جديد: فالكتابة تتطور بالممارسة، بالاستمرار، شخبط، جرّب، لا تمل، اكتب!، فيما أنا مستسلم تماماً لانصراف الكتابة عني أو انصرافي عنها، مردداً بيني وبين نفسي: “ما احنا ياما كتبنا، أخدنا إيه؟!”
أعود إلى الكتابة، فليس سواها باق، وأمدح سنوات التوقّف عنها، كما أمدح من يواظبون بدأب عليها، ويبقى الزمن هو الحكم الأخير، هو من يحيى الكتابة، وهو من يميتها.
نقلاً عن المدن
التعليقات مغلقة.