استراتيجية التملُّص من الحرب
التحدي الذي يواجه استراتيجية باراك أوباما في سوريا، هي أنها تستهدف نظام الأسد وداعش معاً، ولا يمكن القضاء على عنصرين متناقضين بسياسة واحدة. وفي الحالة السورية الراهنة، يُحصّن تدمير أحد هذين الطرفين الآخر، ويجعل القضاء عليه شبه مستحيل، وليس لإدارة البيت الأبيض في مثل هذه الحالة سوى إطلاق طرف ثالث، من نوع العدو الحيوي الذي يتعيّشُ على توتر العلاقة بين الطرفين المستهدفين، ينمو ويلتهمهما بمقدار ما يتناقضان، لهذا اختار أوباما استراتيجية إنهاك داعش والنظام معاً، التي توفر مع الوقت، مناخاً مناسباً لترعرع العامل الثالث المعتدل، والذي يُظن خطأ أن المقصود به معارضة غير إسلامية، والحقيقة أن المنشود اليوم هو الاعتدال السياسي لا الديني، أي قبول الخصم السياسي والتعايش معه، وهذا يعني تجميع عناصر تصالحيَّة من المعارضة والموالاة معاً.
الطريقة الفضلى لقراءة أفكار أوباما هي مطالعة ما انتزعه منه الكاتب الأميركي توماس فريدمان في آب الماضي، فالرجل يريد تحقيق صيغة لا غالب ولا مغلوب. ويعلن أن الجيش الأميركي لن يكون أداة ساذجة لفرض تفوق طرف على آخر في العراق إلا بما يعزز هذه الصيغة. أما في سوريا فيتقدم الرجل بحذر، ويستلهم تجربتي العراق وليبيا، حيث أدى تدخل الولايات المتحدة في الأولى إلى استحواذ الشيعة على كل شيء، فيما سادت الفوضى في الثانية عقب سقوط القذافي.
يبحث أوباما في الشرق الأوسط المليء بالصراعات، عن تسويات يرعاها سلاح الجو الأميركي، ويضبط موازين القوة فيها من الأعلى بدقة، فقد قال لفريدمان بوضوح “إننا أمام أقلية سنية ناقمة في العراق، وأغلبية سنية ناقمة في سوريا، على مساحة تمتد من بغداد إلى دمشق، وإذا لم نقدّم لهم صيغة تلبّي تطلعاتهم، سوف نواجه مشكلات حتماً”. وهو يشير بذلك إلى داعش، ويوجه تحذيراً لإيران وحلفائها المذهبيين، ولا يتردد في القول إن داعش ستعود ما إن ترحل طائراتنا.
لكن بينما يمكن العثور على فرقاء يتفقون مع خطته في العراق، يبدو المشهد السوري حكراً على المتصلبين من كلا الجانبين، ويشكو أوباما خفوت صوت تيار التصالح في صفوف المعارضة، وخرس أصحاب هذا التوجه وصمتهم في صف الموالاة، ولكي يتم خلق فسحة لازدهار كلا المجموعتين، يحاول أن يدعم العلمانيين المعارضين بحجة الحرب على داعش من جهة، وتهيئة الظروف لبروز موالين يؤيدون المنهج التصالحي، من خلال الضغط على نظام الأسد وتأكيد فكرة استحالة انتصاره، ليصنع من لقاء المجموعتين حلفاً يتفوق على الرؤوس الحامية، ويمضي في تسوية تضع القضية على سكَّة الحل.
تستطيع القوة العسكرية الأميركية أن تفرض هذه الرؤية، وهي قد غطت خطتها مبدئياً بحشد نحو أربعين دولة لمحاربة داعش، لكن السير نحو تحقيقها بخطى غير واثقة، سيغري روسيا وإيران بالتدخل لتخريبها عبر زيادة الدعم لنظام الأسد.
رغم تعيين الجنرال جون آلن، الخبير ببناء الثقة مع عشائر العراق السنيَّة، كقائد للتحالف الجديد، إلا أن جهوده لن تكون مجدية على الصعيد الشعبي فيما لو بقي حزب الله والميليشيات الشيعية في العراق يسرحون ويمرحون على هواهم، وسيرى عموم السنة أن التحرك الأميركي يستهدف السنة فقط، ويحتاج آلن إلى خطط تنفيذية تضرب بمهارة، مرة على حافر الميلشيات الشيعية والنظام السوري، ومرَّة على مسمار داعش، وإلا ستنهار استراتيجية أوباما.
كما أن هذه الاستراتيجية ليست مأمولة من طرف بعض القوى الإقليمية المناهضة لنظام الأسد، والتي لا تريد لسوريا أن تكون للمعتدلين بل تريدها لها، مستلهمة نموذج الهيمنة الإيرانية على العراق في مرحلة ما بعد سقوط صدام حسين، وستحاول الالتفاف على خطة أوباما.
ثمة تحد آخر قد تواجهه خطة أوباما حتى في حال نجاحها ميدانياً، إذ سيؤدي سقوط حلم بناء الدولة بالنسبة إلى داعش، إلى استعادة نهج القاعدة وأسلوبها في ضرب المصالح الأميركية في كل مكان، بمعاونة أنصارها الغربيين الذين يعدون بالآلاف، مما قد ينسف الخطة برمتها.
كما أن التنظيم قد يفرض إعادة ترتيب الأوراق لو أخلى الساحة السورية فجأة وتمركز في العراق، حيث مركز ثقله البشري والعسكري والاقتصادي.
تحاشى أوباما أن يصبح صاحب الكلمة العليا في القضية السورية طوال ثلاث سنوات، وأوكل أمرها فعلياً ورماها على عاتق روسيا، التي تورطت مع الصين في وضع فيتو على كل الاقتراحات الأميركية، وهو اليوم يريد أن يستثمر إقرار الجميع بعجزهم ليضع يده في مجمرة الشرق الأوسط منفرداً، لكنه يريد أن يفعل ذلك بقفازين يحافظان على نظافة يديه من دماء الجنود الأميركيين، الذين تعهد بألاّ يزج بهم في حرب خارجية، لكن تردده وحذره، قد يقوده إلى أسوأ مستنقعات التدخل الخارجي فيما تبقّى له من وقت في البيت الأبيض، أو انه سيترك لخلفه في الرئاسة نصف دزينة من الحروب، التي يتعين عليه أن يخوضها نيابة عن رئيس سابق، مثقف ومرهف الأحاسيس، على نحو قاتل.
عن العرب اللندنيَّة
التعليقات مغلقة.