عواصم الإعلام الناقد!

75

د. ياسر عبد العزيز

تلك أيام بعيدة، لكن أحداثها ما زالت ماثلة أمامي، ربما لأنني حصلت خلالها على أول درسين متكاملين وصلبين في عالم الإعلام. كان هذا في فبراير (شباط) 1986، حين وقعت في مصر اضطرابات واحتجاجات مثيرة، سنعرفها لاحقاً باسم «أحداث الأمن المركزي». يومذاك سرت شائعة بين مجندي الشرطة في محافظة القاهرة مفادها أن تعديلات ستطال قوانين خدمتهم الإلزامية، بما يبقيهم في الخدمة لأربع سنوات بدلاً من ثلاث، وهو أمر سيفاقم الضغوط والتكاليف عليهم، في ظل ظروف صعبة يعيشونها وتعيشها البلاد أيضاً آنذاك.

على أي حال، سرت تلك الشائعة بين المجندين كما تسري النار في الهشيم، ويبدو أن أيادي خفية ساهمت في تأجيجها، واجتهدت في تعبئة الصدور بالغضب، فخرج آلاف من الجنود الغاضبين إلى الشوارع، في أكثر من محافظة، ومارسوا عنفاً وتخريباً، قبل أن تتمكن السلطات من السيطرة على الموقف واحتوائه.

لم أكن قد بدأت دراسة الإعلام في ذلك التوقيت، لكنني حصلت مع ذلك على درسين مهمين في هذا المجال. أول هذين الدرسين كان عن «قوة الشائعة»، وقدرتها على أن تصبح «حقيقة» في وعي بعض المستهدفين بها، رغم كونها لا تتوافر على أي درجة من الصدق، وأما الدرس الثاني، فيتعلق بـ«الاعتماد»؛ أي الإجابة عن السؤال البسيط: على أي الوسائط يعتمد الجمهور في أوقات الغموض والخطر وعند تكوين الرأي واتخاذ القرار؟

كان الدرس الأول واضحاً وحجته راسخة؛ فقد عرض هؤلاء الجنود حياتهم للخطر ووضعوا مستقبلهم في مهب الريح، وكادوا يقوضون الأمن القومي والسلم الأهلي لبلدهم لمجرد أنهم صاروا «زبائن» طائعين لشائعة جامحة، في وسط اتصالي مغلق وخاضع للهيمنة التامة.

أما الدرس الثاني، فقد ظهر جلياً في حرص أفراد عائلتي من الراشدين وأصحاب الخبرات على اللجوء إلى مصدرين محددين معروفين آنذاك للتعرف إلى حقيقة الموقف، وتفادي المخاطر الماثلة في تحرك مجموعات من الجنود المسلحين الغاضبين في الشوارع، واتخاذ القرار السليم إزاء ما يجري… وللأسف، فإن المصدرين كانا «راديو لندن» و«راديو إسرائيل».

كانت مصر ما زالت تعيش على إيقاع فكرة «الريادة الإعلامية»، وكانت الدولة تهيمن على منظومة إعلامية ضخمة تتمثل في عشرات المطبوعات والقنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية، في غيبة أنماط الملكية الخاصة بطبيعة الحال. ومع ذلك، فإن القطاعات الأكثر وعياً بين الجمهور تركت كل هذه الترسانة، وراحت تقلب مؤشر الراديو لكي تصل إلى «حقائق» و«أخبار»، ولم تكن وجهتها لذلك سوى لعاصمتي دولتين كانتا معاديتين حتى وقت قريب… بريطانيا التي احتلت مصر لأكثر من سبعة عقود، وإسرائيل التي احتلت سيناء وهزمتنا في 1967.

ربما حدث شيء قريب من هذا في عدد من الدول العربية على مدى التاريخ الذي نشطت فيه وسائل الإعلام الجماهيرية، وربما أن ذلك ما زال يحدث حتى يومنا هذا؛ فقد تكرر أمر تلك العواصم التي تقدم «إعلاماً ناقداً»، يركز على الجوانب السلبية التي تتغاضى عنها المنظومات الإعلامية الوطنية الواقعة تحت سيطرة الحكومات، ويضخمها، أو يبث شائعات مسمومة، ويضفر معها أحياناً جهوداً ميدانية ذات طبيعة استخباراتية، أو يكتفي بتقديم معالجة مهنية شاملة للقضايا المغيبة في الإعلام المحلي، فيعري ضعفه، ويسلب منه الثقة، ويستأثر بالاعتماد.

في السنوات الأخيرة، طرأت تغيرات مهمة وحادة على المجال الاتصالي للدول العربية؛ فقد دخل الإعلام الخاص بأجندات متباينة إلى معظم تلك الدول، وقلبت وسائط «التواصل الاجتماعي» الطاولة على جهود التقييد والضبط والتحكم في الرسائل، ومع ذلك فإن عواصم «الإعلام الناقد» لم تكف عن «بث الشائعات المسمومة» و«خطف الاعتماد».

وقد برزت في الآونة الأخيرة مدينتان كعاصمتين لـ«الإعلام الناقد» لدول محور الاعتدال العربي، ونجحت كلتاهما في تنفيذ الأجندة المطلوبة، في ظل هشاشة بعض المنظومات الإعلامية الوطنية، أو قابليتها الكبيرة للاستهداف.

لكن أوضاع السياسة تتغير كما نعرف، ويبدو أن هاتين العاصمتين – أو إحداهما على الأقل – قررتا تجميد هذا الدور، أو مقايضته بـ«مكاسب» سياسية.

سيكون هذا مكسباً خالصاً لحكومات الدول العربية التي عانت الاستهداف، وسيكون أيضاً مكسباً للحقيقة والإعلام المهني، لأن أنماط الأداء المسيئة ستتوقف، وقد يكون أيضاً مكسباً للاستقرار.

لكن الإشكال لن ينتهي، لأن بقاء بعض المنظومات الإعلامية الوطنية دون القدر اللازم من الانفتاح والتعدد والتنوع والقدرة على عرض المثالب، سيبقي الهشاشة والقابلية للاستهداف في انتظار عاصمة جديدة لـ«الإعلام الناقد».

 

التعليقات مغلقة.