« BASTARDO» السُلطة في يد «أولاد الحرام»

29

21qpt850فاز الفيلم التونسي «BASTARDO» بالجائزة الكبرى في مهرجان الأسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط في دورته الثلاثين، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه وكاتب سيناريو الفيلم (نجيب بلقاضي). يُعالج الفيلم مشكلة مزمنة من مشكلات الدول المنتمية لما يُسمى اصطلاحاً بـ «الدول العربية» أو مجازاً الدول المَنسيّة من الجميع، خاصة السلطة السياسية التي تحكمها، فتتركها لبعض الأشخاص ذوي السُلطة المُنتحَلة لتسيير شؤونها. والحديث هنا عن المناطق الفقيرة، والتي تتماس والعديد من الأماكن في أكثر دول العالم. الفيلم يتناول متلازمة الفقر والجهل، والدور الذي تلعبه هذه التركيبة لخلق سُلطة تتناسب والجماعة البشرية التي تحكمها، وهي في معظم الأحوال سُلطة اللقطاء … أولاد الحرام.
الفيلم بطولة… عبد المنعم شويات في دور (محسن)، لبنى نعمان (فتاة النمل)ــ فازت بجائزة أفضل ممثلة بالمهرجان نفسه- توفيق البحري (سائق التاكسي)، لسعد بن عبد الله (الخضراء)، وشاذلي العرفاوي في دور (أرنوبة). الفيلم إنتاج قطري، فرنسي، تونسي مشترك عام 2013.

رضيع في صندوق قمامة:

كهل يعمل في محل للطعام، وبينما ينتهي من عمله ويكاد يُغادره، يجد داخل أحد صناديق القمامة التي تعبث بها القطط طفلاً رضيعاً، يحمله ويمضي إلى مسكنه.
ولأن مَسكن الكهل ليس منزلاً معتاداً، لكنه في المكان البعيد عن عين الجميع، في مستوطنة عقاب، يقوم بحمايتها والتحكم في أفعال وأفكار سُكانها رجل لا يعرف قلبه الرحمة، يعيش بين زوجة أشد قسوة منه، وطفله الرضيع، الذي سيتربى معه ويُصادقه في رهبة «مُحسن» كما أطلق عليه الكهل، أو «محسن بستاردو»ــ ابن الحرام ــ كما أطلقت عليه «الخضراء» زوجة رئيس حي المُشرَدين، ومن وقتها وأصبح هذا الاسم وهذه الصفة تلازمه كظِله. ربما كان الطفل من أولاد الحلال، وربما كما تنبأت كاهنة الشر/ الخضراء بمستقبله؟
من ابن الزنا إلى ابن الفقر:

يصبح محسن شاباً يعمل حارساً في أحد مصانع الأحذية الشهيرة بالمدينة، ويحب إحدى فتيات المُستعمرة التي تعمل بالمكان نفسه، لكنها تقوم مع آخرين بسرقة كمية كبيرة من الأحذية، وتذهب إلى محسن في نوبة عمله، وتقول له «أنت لا سمعت ولا رأيت شيئاً» ويفي محسن بحبه لها، ويصمت، ويتم في النهاية تسريحه من العمل، ليُعاني من الفقر والوحدة والحلم بالحبيبة الهاربة، التي افتتحت متجراً مرموقاً لبيع الأحذية في المدينة، لا يؤمه سوى الأغنياء. يعيش محسن مع قط وحيد مثله، وبينما يسرح في فتاة خياله، تحاول فتاة من الحي لفت نظره إليها، وهي فتاة تحيا وحدتها بطريقة أخرى… فالجميع يتجنبها ويبتعد عنها، لأنها تعاني من ظاهرة غريبة منذ مولدها، وهي تجمّع النمل والحشرات حولها، والتجول في جسدها وكأنهم يقدّرون قيمة تفاصيله. وقتها يكون زعيم الحي مات، وتوارث ابنه المنصب، لكن الابن «أرنوبة» واسمه هذا اتخذه- كصفة أيضاً- لشدة حبه للأرانب، والتمثل بها في الخوف الدائم والزعر المزمن في نظره عينيه، خاصة من أمه (الخضراء)، هذا الشاب رغم ضخامة الجسد الموروثة عن والديه، يهابه الجميع، بينما هو يرهب نفسه، ويحيا في عزلتها، التي لا تنكسر إلا في لحظات مسروقة يُمارس فيها الحب مع «فتاة النمل».
الواقع السحري:
وبما أن السُلطة هي الاستثناء الخيالي الذي أصبح يُنتج الواقع، فالحرية من المفترض أن تكون من صفات الإنسان وماهية وجوده، إلا أن الواقع يجعل منه حيواناً لم يرتق بعد، ولعل هذا هو السبب في مشهد (القرَدَة) الذي كان كخلفية للموقف بين الكهل وهو يحمل الطفل إلى زعيم مُستعمرة الفقراء، حتى ينال رضاه في انتساب الطفل للمكان، فالتليفزيون كان يذيع حلقة وثائقية عن عالم القرَدَة، وصوت المعلّق يتزامن واستجداء الرجل بقاء الطفل بينهم، وحينما يوافق الزعيم، وينظر الرجل ويرضخ لاسم الطفل المختارــ ابن الحرامــ يأتي التعليق أن من مظاهر الطاعة في عالم القرود، أن يُظهر القطيع مؤخراتهم للزعيم كلما مَرّ بينهم، دلالة على الطاعة وارتضاء سُلطته المُطلقة. هنا تمتزج الخيالات مع الأساطير، من السِحر الذي سيُعيد الروح للأموات، لفتاة يُصادق النمل تفاصيلها، لأموات يظهرون ويحركون الأحداث، ويمكن مخاطبتهم بسهولة، والحكاية وتفاصيلها تنجو وتتوسل بالخيال، الذي يفوقه الواقع!

السُلطة الجديدة:

لم يعرف أحد بحال هؤلاء وكأنهم مخلوقات أخرى إلا عند زياة التليفزيون للمكان، واستعراض حال فتاة النمل حينما كانت طفلة، وكأنها ظاهرة خارقة، وعلى وجه المذيعة الحكوميةــ كحال مذيعات الدولة الرسميات- ابتسامة بلهاء، فلم يلتفت أحد إلى طبيعة الحياة، وحال أهل المكان.
أما التكنولوجيا وهي مصدر السُلطة الجديدة، فتأتي من خلال الهاتف النقال، واختيار منزل (محسن)ــ مُصادفةــ لتوضع فوق سطح منزله محطة الإرسال، ليصبح هو وصديقه سائق التاكسي- المخمور دوماً- من الأغنياء. وتبدأ الحرب بين محسن وأرنوبة، وفي التدشين الاحتفالي ببث إشارة التليفونات التي أصبحت في يد أهل المُستعمرة، يُقام الاحتفال، ويُذكَر أنه الاحتفال الثاني في حياتهم بعد دخول الماء إليهم منذ ثلاثين عام، وتجتاح هيستيريا الاستهلاك السُكان، فالكل يريد الهاتف السحري، ويصبح كُشك التليفون العمومي من موضات الزمن البائد. يعيش محسن أكثر في أحلامه، وتبدو فتاة السراب تطالعه في الميادين، فهي تتصدر لوحة إعلانات متجرها الفخم، وبالتالي يرى أنه اقترب منها خطوات، بعدما انسالت النقود بين يديه.

أولاد الحرام:

ربما كان محسن ابن حلال وقتما وجده الرجل، لكنه بعدما لانت له الحياة، أصبح عنصراً فعالاً في معادلة السُلطة، وبالتالي سيخوض صراعاتها، وقد تحولت من سُلطة القوة إلى سُلطة الاقتصادـ شكل من أشكال الحروب في العصر الحديث- حتى تأتي المعركة الفاصلة، فكان الصدام بينه وبين أرنوبة، الذي بدأ في تجارة أجهزة الهواتف النقالة، ولا يجد مفراً من قتل محسن صديق طفولته، محسن الذي سقط عنه مُسمى (ابن الحرام) وأصبح الجميع يُنادونه بـ (سي مُحسن)، بعدما تخلص أرنوبة من شريك محسن وصديقه، وهنا يعترف أرنوبة لفتاة النمل وهي في فِراشه أنه سيقتل محسن، فما كان منها إلا قتله، ليأتي أتباعه ويُدينون لمحسن بخدماتهم الجديدة، فهو الآن (الرئيس) الأوحد.

عالم الأموات:

تبدو علامات المرض على محسن، نتيجة جهاز الاستقبال الموضوع فوق سقف بيته، ونظره أخذ في الضعف، حتى أنه أصبح يرى بالكاد، ويسير فوق عصاته، التي لا يستطيع حتى أن يهش بها على هواجس وحدته، هنا يصعد للسطح، وكأنه شاهد قبر، ليجد شريكه الميت في انتظاره، يضحك ويعطيه النصائح، ويُبارك أفعاله، فهؤلاء الجهلةـ حسب قوله- لا يستحقون سوى سُلطة على شاكلاتهم، فإن لم يجدوا أحداً يقهرهم، سوف يقهر بعضهم البعض، هكذا عاشوا وهكذا سيموتون. بعدها يموت القط نتيجة ذبذبة الإشارات، فنجده بين يدي الصديق الميت، وحينما يمتنع البعض عن دفع رسوم الاشتراك، يصعد مُحسن وكأنه (إله) سيمنع عنهم الحياة، فيوقف بث الإشارة، فيصبح الجميع وكأنهم خرجوا من الجنة، ويرضخون في النهاية، بل ويتوافدون لتقبيل يده وهو جالس في الظِل، أكثر مرضاً ونحولاً ويكاد لا يرى شيئاً حوله. وبما أن عالم الأموات هو تيمة العمل، فلا فارق بين ميت حقيقي وميت بالحياة، فجثمان أرنوبة لم يزل مُلقى في سريره، أمه الخضراء تثق في كونه على قيد الحياة، وتأتي امرأة سائق التاكسي لتوحي لها بجلب روح الأب إلى الابن المُلقى- رغم كون أرنوبة هو قاتل زوجها، لكن قوة الأساطير تفوق أرواح معتنقيهاـ وتنجح، فيقوم من مواته، ويذهب لقتل محسن، فيجده قد فارق الحياة داخل جدران منزله الهشة، وتأتي فتاة النمل لترى أرنوبة يبكي بحرقة كطفل، ويحتضن محسن، فتنسال دموعها في صمت. هنا يصعد محسن لينضم إلى رفيقه والقط الضحيةـ الإنسان والحيوان معاً مرّة أخرى- يجتلسون السطح، وينظرون إلى الأفق، الذي لم يكن سوى أفيش دعاية كبير تتصدره فتاة السراب في حذاء يمثل آخر صيحات الموضة.

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.