اسمعوا نصيحة بورقيبة واعترفوا بالقضية الكردية

85

د. كمال اللبواني

عندما نصح الرئيس التونسي بورقيبة الزعماء العرب عام ١٩٦٣ بقبول قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، استمرّ طلاب المدارس بإسقاطه كل صباح حتى صحوا على هزيمة ١٩٦٧، التي احتلّت فيها إسرائيل كامل فلسطين ومساحة تفوقها من مصر وسورية، أذكر يومها كنّا نردّد كل صباح “يسقط الحبيب بورقيبة.. يسقط يسقط يسقط”.

كنت يومها أظن كلمة حبيب (حليب)، كنت أردّد يسقط الحليب بورقيبة، وهذا الخلط بين الحبيب والحليب متوقع من طفل في الصف الثاني، في السابعة من عمره، فماذا يفقه في السياسة حتى يتم حشو دماغه بشعارات مثل أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة، ويسقط الحليب أو الحبيب بورقيبة، لأنّ من سقط بعد أعوام وسبّب صدمة نفسية كبيرة عندي وعند غيري، هو سقوط كل من زرع في دماغنا من شعارات وبطولات وأمجاد وهوبرات، وهكذا بقينا في حيرة طيلة عقود وما نزال.

بذات الطريقة يتخيل البعض أنّ منع قيام دولة كردية يتم بالشعارات، وأنّه من الممكن تجاهل مطالب وإرادة شعب يعدّ حوالي ٤٠ مليون في المنطقة، فتستمر سياسات التجاهل والتخوين، ويستمر الشعب الكردي في بناء أسس قيام دولته، مستفيداً من الدعم الغربي الذي لا يريد للمشروع العثماني ولا الفارسي ولا القومي العربي أن يبقى مرتاحاً، فيدفع بالمشروع الكردي بهدف إشغالهم ببعضهم معاً، وهنا لا يمكن لوم الكردي إذا استفاد من الظروف والدعم الغربي، طالما أنّه يتعرّض للإنكار، فلو أعطي حقوقه ثم تآمر مع الغرب كان من الممكن اتهامه، أما أن يتعرّض لإنكار الوجود، ثم يطلب منه عدم البحث عن مصادر قوة لتحصيل حقوقه فهذا لا يقبل به أي شعب.

أصل المشكلة في الشرق الأوسط هو النزعة القومية الأوروبية التي غزت الدولة العثمانية، فسيطرت عليها، وهذا ما جعل العرب يبدون ردة فعل موازية استغلّها البريطاني لضربهم ببعضهم، بينما بقي الكرد صامتين مقسمين بين القوميات الثلاث، العربية والفارسية والتركية، ولكن أيضاً بسبب استمرار الاضطهاد والتمييز صاروا في طريق المطالبة بحقوقهم القومية، التي حظيت بدعم من أوروبا التي ما تزال تستشعر الخطر من مكونات المنطقة.

اليوم مشروع القومية العربية يحتضر، ومشروع إيران الفارسية الصفوية تحت القصف بسبب سلوكه المزعزع للاستقرار في عموم المنطقة، وتحالفه البنيوي مع الإرهاب، أما مشروع التركمانية العثمانية فهو متعثر، بسبب تناقض الانتماء القومي والديني، فالترك هم من ألغى الجامعة الدينية قبل الحرب العالمية الأولى، عندما سيطرت الحركة القومية على السلطة، وهي التي اضطهدت الكرد والمتدينين فيما بعد، وقطعت معظم الصلات مع الماضي ومع العرب، والشعب التركي ليس موحداً بل يعاني من انقسامات عامودية كثيرة، قومية وطائفية وانقسامات سياسية جدية أيضاً، كما أنّ جيلاً جديداً يترعرع لا يشعر بالانتماء للماضي، بل يتطلع نحو تقليد الحداثة الغربية، لذلك فمشروع الدولة الكوردية هو المشروع الصاعد الذي يغذّيه رغبة جامحة عند كل الكرد أينما كانوا، وهو يستفيد من الفوضى ومن فشل الدول في المنطقة ومن التواجد العسكري الأجنبي، وهو كما يبدو لا توجد قوة ولا وسيلة لإيقافه، بل إنّ الوقوف السياسي في وجهه يعطيه المزيد من الاندفاع، ويبرر عنده التجاوز على حقوق المكونات الأخرى.

ليس من الصحيح التمترس وراء شعارات لا توجد وسيلة لتجسيدها، بل يجب فهم الظروف والبحث عن سياسات عملية تتجاوز تبعات هذا الصراع، فالجلوس على طاولة المفاوضات مع الكرد، هو الطريق الوحيد الذي يقي المنطقة صراعاً دموياً مريراً تدفع إليه معظم الدول الأجنبية الطامعة في السيطرة على المنطقة. الجلوس مع الكرد وإعطاؤهم حقوقهم بالحوار، يضمن حقوق البقية، أما التنكر لحقوقهم، فلن تكون نتيجته سوى الحرب التي يخسر بها كل الأطراف، بل يحرض عليها الأجنبي.

اسمعوا نصيحة بورقيبة واعترفوا بالقضية الكردية، وتحاوروا مع الكرد لحلها، لكي تخرجوا أصابع الأجنبي، وكي تسيروا بالمنطقة ضمن مسار تعاون سلمي يكون رافعة لشعوبها ودولها، بدل العنصرية والعنجهية القومية التي لن تطمعنا إلا الدم والاستبداد.

أعطوا الكرد حقوقهم، فإن طالبوا بأكثر منها قاتلوهم، وعندها ستجدون كرداً يقاتلون معكم، أما إنكار قضيتهم فلن يجعلكم رابحين، لأنّ ذلك بالضبط ما يريده أكثر من زعيم ودولة أجنبية، بل كلّهم، الشراكة التاريخية بين الكرد وبقية الشعوب تستحق منهم جميعاً الجلوس على طاولة الحوار، وعدم الاحتكام للقوة وعدم الاستعانة بالأجنبي.

الدولة الكردية تسير نحو الوجود، وأمامها طريقين فقط، الأول هو المرور بمرحلة الحكم الذاتي ثم الانفصال عن الدول الراهنة وإقامة دولتها المستقلة، أو اتجاه المنطقة كلها معاً نحو الديمقراطية واحترم التنوع وحقوق الإنسان، وبناء نظام اتحادي جامع للمنطقة كلها، يضم الترك والكرد والعرب والفرس، كمكونات متساوية في الحقوق الثقافية، متعاونة في دولة اتحادية واسعة تعبر عن متطلبات العولمة، والتقدّم والازدهار في المنطقة.. الحوار سيبني السلام والاستقرار والاستقلال، بينما الصراع سيدفع باتجاه الفقر والاستعمار والتبعية، فأيّهما نختار؟.

نقلا عن ليفانت

التعليقات مغلقة.