خوليو كورتاثار.. في قارب الظل

37

349

 

 

 

 

 

 

لا عجب أن تُفردَ الأرجنتين مساحة العام الحالي كاملة للاحتفاء بمئوية كاتبها خوليو كورتاثار(1914-1984) رغم مرور ثلاثة عقود على رحيله وظهور أسماء بارزة من المبدعين الأرجنتينيين بعده، إذ بقيت له مكانة خاصة لا ينازعه أحد عليها.

يكمن الاستثناء في نصوص كورتاثار أنها كانت حاضنة وجامعة لأجناس أدبية مختلفة في نصٍّ واحد، ولهذا يعتبر كثيرون قصصه القلِقَة، على سبيل المثال، منسابة في إطار غير مستقر مع أنه تامٌّ ومكتمل. فإن كتب القصَّة استخدم لغةٌ شعريّةً ومسرحيَّةً، مخلصاً نصوصه من وضوح الهوية الأدبية.

ورغم أنّهُ بدأ شاعراً حين كتب قصائد حبٍّ في يفاعته ومنذ طفولته، إلا أنَّ الشِّعر لم يحتل سوى أربعة دواوين من مجمل الأعمال الخمسة والعشرين التي كرَّستهُ أديباً استثنائيّاً؛ فعلاقته الخاصة بالأجناس الأدبية مكَّنت القصائد من التدفق من مخيلته بسهولة جعلت أمه تَشكُّ في أنه (الطفل كورتاثار) هو من كتبها، كما يقول هو نفسه: “ليس بالنسبة لي بل بالنسبة لأمي التي تصوَّرت أن قصائدي منتحلة”.

 

ربما حملَه هذا على توقيع ديوانه الشعري الأول “وجود” الصادر في الأرجنتين عام 1938، باسم خوليو دينيس. في حين نشر في أوروبا ديوانيْن في فترتين مختلفتين هما: “قصائد وميوباس”، (برشلونة، 1971)، و”أسباب الغضب” (روما، 1982)، لكنه ضمّ أيضاً قصائد في كتبه الأخرى.

أما ديوانه الرابع، فكان عبارة عن كتابات أُخرى ملقاة هنا وهناك، كـ”قصائد جيب، أو قصائد كتبت خلال أوقات الفراغ في المقهى، أو قصائد كان يكتبها خلال سفره في الطائرة أو خلال تنقله بين فنادق كان قد أقام فيها، وكان من حظ قرّاء ومتابعي أدب كورتاثار أن يجمع الأخير تلك الروائع في مجلّدٍ بعنوان “إّلا الشفق”، الذي اقتبسه عن قصيدة هايكو لماتسو باشو: “هذا الطريق/ لا أحد يسير به/ إلّا الشفق”. يقول في قصيدته “الأصدقاء”: “يوماً ما، سأغطي صدري بكل هذا الغياب/ بهذا الحنان العتيق الذي يسمّيهم/ في قارب الظل”.

عرف كورتاثار الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيسارنيك (1936-1972)، في بدايات الستينيات. فقد فرَّ كلاهما من ذات المدينة “بوينوس آيرس” إلى فرنسا. وقد حامت عدة فرضيات حول طبيعة تلك العلاقة التي ربطت بينهما لكنها لم تخرج عن نطاق الفرضيات؛ إذ كان كورتاثار متزوجاً من أورورا بيرناندس، التي كانت أيضا مقربة من بيسارنيك.

لكن روح أليخاندرا المعذّبة التي جعلتها تكتب قصائدها الجميلة جرَّتها أيضاً للانتحار عام 1972. فيما كانت شخصيتها مغناطيساً لكثير من المثقفين وعلى رأسهم كورتاثار الذي أهداها مخطوطة من روايته “لعبة الحجلة”. وقد أكَّدت بيسارنيك بعد قراءتها الرواية مرات عدة أنها هي “ماغا”، الشخصية الأسطورية في الرواية.

عام 1964، عادت بيسارنيك إلى بوينوس آيرس، وكان كورتاثار في فرنسا وبدأ كلاهما في تبادل عدد كبير من الرسائل، التي تحملُ في سطورها دعماً كبيراً لبيسارنيك، وكان كورتاثار يردُّد فيها على الدوام عبارات مثل: “تمتلكين القدرة الشعرية، تعرفين ذلك!”. أو “أنا أقبلك حيّةً فقط، فقط أحبك يا أليخاندرا”.

وكانت هي ترد عليه وهي تقترب للموت أكثر: “لقد تجاوزتُ الحدَّ، أفترض ذلك، لقد ضِعت، أيها الصديق القديم لأليخاندرتك العجوز التي تخشى كلَّ شيء ما عدا (الآن، أه يا خوليو)، الجنون والموت. (منذ أشهر وأنا في المستشفى). تجاوزات ثم محاولة انتحار فشلت – هذا كافٍ”.

نتذكر قصيدته “الولد المؤدب” ونتخيّل أنه يخاطب بها أليخاندرة: “لن أعرف أن أحلّ رباط حذائي لتعضّ المدينة قدمي/ لن أثمل تحت الجسور، لن أسيء التّصرّف […] أرأيتِ أيّ عاشق بائس أنا؟/ لا يجرؤ أن يجلب لك من النبع سمكة حمراء صغيرة/ أمام غضب الدرك والمربيات”.

عن العربي الجديد

التعليقات مغلقة.