فيلم «الأب» يرصد صراع الأجيال ولا يسقط في فخ النمطية والتكرار

98

ينطوي فيلم «الأب» للمخرجَين البلغاريين كريستينا غروزيفا وبيتر فالجانوف على إشكالية التواصل بين أبناء العائلة الواحدة، التي ترتبط بعلاقات حميمة، كما هو الحال في عائلة فاسيل (إيفان سافوف) وزوجته فالنتينا (ماريا باكالوفا)، والابن الوحيد بافيل (إيفان بارنيف).

لم يتأخر المخرجان كثيرًا في التمهيد للقصة السينمائية المحبوكة جيدًا، إذ سرعان ما يجد المُشاهد نفسه في قلب الحدث المأساوي لموت فالنتينا الذي ترك أثره الواضح على زوجها فاسيل، الذي طلب من ابنه أن يصوّر أمه المسجّاة في التابوت، وحينما يكتفي الابن بالتقاط صورة واحدة يخطف الأب الكاميرا من يده ويتلقط لها عدة صور من زوايا كثيرة وبعضها لقطات مقرّبة جدًا وكأنه يريد أن يُثبِّت ملامح الموت الذي خيّم على وجهها ونقَلَها إلى عالَم السكينة الأبدية، لكن هذا الصمت سرعان ما يتحطّم عندما تخبره الجارة بأنّ زوجته المتوفاة اتصلت بها عبر هاتفها الخليوي فيصدّق الأب هذا الادعاء ويسعى للردّ عليها، على الرغم من اعتراضات ابنه الذي يحاول إعادة والده إلى رشده، وبالمقابل يمضي الأب في سعيه المحموم للبحث عن وسيط روحاني محترف للتواصل مع زوجته الراحلة التي أبّنها بنفسه، والتقط لها الصور العديدة، لكن إيمانه بالقوى الخارقة للطبيعة هو الذي دفعه لأن يغادر البيت، ويذهب لقضاء الليل في الغابة مدعيًا أنّ هناك طائرات اختفت ثم عاودت الاتصال بعد سنوات طوالا، والأكثر من ذلك فإنه يُعيب على ابنه جهله بهذه الحوادث التي وقعت في الماضي القريب، وكأنّ الابن يعيش خارج الزمن. وبينما ننهمك في متابعة الأب المتجه إلى الغابة نتعرف على زوجة بافيل التي تتابع أخبار زوجها بالتفصيل، وتحرص على إدامة العلاقة الروحية التي تربطهما معًا، لكننا لم نرَ هذه الزوجة التي لم تحضر طقس التأبين الذي بدا غريبًا وشاذًا للحضور.

تتناول القصة السينمائية للفيلم ظاهرة العلاقة الإشكالية المتناقضة بين الأجيال، وهي لا تقتصر على التناقض وعدم القدرة على التناغم في الرؤى والأفكار، وإنما تذهب أبعد من ذلك بكثير، فالأب يؤمن بالخرافات والأساطير، وهو ماضٍ في تأكيد قناعاته الشخصية مهما كلّف الأمر. أما الابن بافيل الذي يعمل مصورًا في مؤسسة إعلانية تريده أن يصحح الألوان لإحدى إعلاناتها، لكن إصرار والده على المبيت في الغابة الجوراسية وتوسّد صخورها قد سبب للابن المشغول العديد من المواقف المحرجة والكوميدية، إلى حد ما، خاصة عندما يذهب إلى أحد مراكز الشرطة ويشتكي على الوسيط الروحاني، الذي يبتز أموال الناس البسطاء من وجهة نظر الابن. ولأن زوجته تحب مربى السفرجل فقد طلبت منه أن يشتري لها علبة قبل أن يعود إلى المنزل لكن يُحتجز في السجن لمدة ليلة واحدة، ويضطر إلى الكذب فيخبر زوجته بأنه قد تأخر في العمل، وحينما تصل إلى مقر عمله تكتشف غيابه، وتنتابها الشكوك بخيانته لها فيضطر لاختلاق حكاية جديدة. أما الأب فيسبب العديد من المواقف المحرجة لابنه في المطعم، وفي الطريق، وفي المشفى وسواها من الأماكن، التي مرّا بها طوال الرحلة إلى الغابة والعودة منها إلى المنزل.

وعلى الرغم من استحالة التواصل بين الزوجة المتوفاة وزوجها، إلاّ أنّ هذه الفكرة تسيطر على أذهان المتلقين في أثناء مشاهدة الفيلم على الأقل. كما أنّ الإيمان بالخوارق يأخذ طريقه بعض الشيء إلى أذهان المشاهدين، وهم يرون أكثر من زوج وزوجة ينامون في الغابة، التي لا تخلو من مفاجآت، وعلى الرغم من ذلك نرى الأب قد خلع ملابسه في أماكن متفرقة ثم نام عاريًا فنهشت جسده الحشرات، وعاد مع ابنه دامي الجبين نتيجة رضوض وكدمات كثيرة، ليؤكد لنا في خاتمة المطاف بأنه لم يتخلَ عن أبيه، رغم المصاعب الجمة التي سبّبها هذا الوالد، غريب الأطوار الذي أعاب على زوجة ابنه أنها لم تستطع أن تنجب له طفلاً يقلب حياته رأسًا على عقب. ربما تكون المفاجأة صادمة بعض الشيء حينما يخبر بافيل أباه بأنه سيصبح أبًا هو الآخر، لتتكرر ثنائية صراع الأجيال من جديد لأن الأبناء يُخلقون في زمن مختلف تمامًا عن زمن الآباء.

ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم هو أداء الأب والابن، اللذين جسّدا دوريهما بإتقان شديد، فحينما نستمع إلى أفكار الأب وقناعاته الشخصية لا نتردد في تصديقها، رغم ما تنطوي عليه من غرائبية فيمضي في تنفيذ خططه التي تبناها وكلفته المزيد من النفقات المادية. أما الابن الذي ينتمي إلى الزمن الحاضر، ويستشرف المستقبل إلى حد كبير، فقد بدا أكثر إقناعًا من والده وطوال مدة الفيلم كان الابن متفاعلاً مع الأحداث، التي تتوالى بسبب سلوك الوالد وعقليته المتزمتة التي تستجيب إلى الخرافات المعششة في ذهنه. لم يكن لهذا الفيلم أن يتكامل ويخرج بهذه الحُلَّة القشيبة من دون التآزر الكبير بين الطاقم التقني لهذا الفيلم، بدءًا من تصوير كروم رودريغويز وموسيقى هيرستو ناميليف ومونتاج بيتر فالجانوف، إضافة إلى الأداء المبهر لشخصيتي الأب والابن وهما يجسّدان ثيمة الفيلم وفكرته الرئيسة التي استحوذت على أذهان المُشاهدين وشدّتهم حتى اللقطات الأخيرة من القصة السينمائية التي خرجت عن المعالجة المألوفة ولم تسقط في فخ النمطية والتكرار.

أنجزت كريستينا غروزيفا بالتعاون المشترك مع بيتر فالجانوف عددًا من الأفلام الوثائقية والتلفازية من بينها (موعظة الحياة) و(الهبوط القسري) و(القفزة) ونالت عنها العديد من الجوائز المحلية والعالمية، وفيلم (الأب) ليس بعيدًا عن جوائز الجونة على صعيد الأداء المبهر للممثلين، والرؤية الإخراجية الدقيقة، والسيناريو المُتقن الذي استطاع إقناع الغالبية العظمى من المُشاهدين.

نقلا عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.