الثورة السورية بين العفوية والإرهاب / نجاتي طيَّارة
يتفق معظم المراقبين على أن الثورة السورية التي بزغت ربيع العام 2011، وما زالت مستمرة، اتسمت بعفويةٍ، دفعت إلى وصفها بالقومة الأهلية، أو الفزعة العشائرية، وهذا تعبير شائع في محافظة درعا وسهول حوران، ويطلق على كل هبة جماعية تضامنية ضد ظلمٍ ما، ما يعني قيام المجتمع المحلي بانتفاضات مدينية ضد السلطة ورموزها، بشكلٍ يحمل معاني النصرة والدفاع الجماعي في أوقات الشدة والملمات. وإذا كانت هذه الدينامية التضامنية قد وسمت، فعلاً، بداية الثورة في درعا، ردا على سلسلة متتالية من مظالم السلطة وعنفها (قصة اعتقال الأطفال وتعذيبهم، إهانة وفد الوجهاء، اقتحام الجامع العمري)، فقد وسمت امتداد الثورة في باقي أنحاء سورية، أيضا، وكانت تعبيراً عن دينامية ذلك التضامن مع انتفاضة درعا وحركيتها العفوية وانتشارها. في حين لم تكن استجابةً لأي تخطيط، أو دعوة مسبقة، على عكس ما ادعته السلطات، في حين اتهمت تلك الديناميكية العفوية بالفتنة المخططة. ذلك أن أجواء الربيع العربي التي كانت قد بلغت أوجها في ذلك الوقت، وما رافقها في سورية من دعوات فيسبوكية، وتجمهرات واعتصامات نخبوية للناشطين، لم تفلح جميعها في دفع ذلك الربيع للتفتح والامتداد، بينما أفلحت السلطة نفسها، وفتحت الباب له واسعاً، بفعل أداء ممثليها في درعا، وفي مقدمتهم مسؤولو الأمن السياسي فيها.
ويقصد بالعفوية، هنا، أنه لم يكن هناك رأس لهذه الثورة، وبمعنى آخر، لم يكن لها من نظريةٍ ثوريةٍ تنطلق منها، ويقودها حزبٌ أو تحالف أحزاب. فليس خافياً على أحد أن التصحر السياسي وغياب المجتمع المدني كان سائداً في سورية، بعد حوالي نصف قرن من نشوء الدولة الأمنية، واحتكار الحزب القائد للدولة والمجتمع. بحيث لم يكن السماح المحدود لبعض الأصوات والنوافذ لوجوه بارزة ولناشطين فرديين، أو ندوات، إلا تنفيسا وكمائن بديلة في أحسن الأحوال.
كذلك، تجلت عفوية الثورة في شعاراتٍ عديدةٍ اختلفت باختلاف المدن والبلدات والشدائد التي تعرض لها أبناء كل منها، مثل المطالبة بالإفراج عن الأطفال في درعا ومحاسبة المسؤولين عن اعتقالهم وتعذيبهم، وإسقاط المحافظ الفاسد في حمص، بإعادة المنقبات إلى وظائفهن، وفي بانياس، على الرغم من شيوع هتافات عامة مشتركة تطالب بالحرية وإلغاء الأحكام العرفية وحالة الطوارئ. لكن، سرعان ما توحدت وتركزت في كل المناطق على إسقاط النظام، من جديد بفعل ممارسات السلطة نفسها وعنفها المتصاعد في وجه حركة المظاهرات، في حين أن من المسلم به أنه لم تكن هناك أية منظمات حزبية، أو مجتمعية متوفرة وقادرة على قيادة تلك الحركة، والتخطيط لها، أو تصعيدها، وفق كل مرحلة!
“الثورة السورية تواجه أخطر مراحلها، إن لم تحسم أمر عفويتها، وتتجاوزها إلى توحيد رؤيتها.
”
في تلك المرحلة، لم تكن العفوية نقصاً أو مشكلة في الثورة، فثوراتٌ كثيرة بدأت هكذا رداً انفعالياً وجماهيرياً على حدث ما، وأقربها مثالاً الثورة التونسية التي انفجرت، إثر إضرام الشاب محمد بوعزيزي النار في نفسه، احتجاجاً على إهانته وبطالته. كما أن شعار “لا ثورة بلا نظرية ثورية” لم يعد صالحاً، إلا بالنسبة لمناهج معلبة، وعقليات عاندت التاريخ الواقعي لثورات الشعوب. لكن استمرار تلك العفوية أصبح، مع مرور الوقت، مشكلة حقاً، حين كشف عن استمرار التخبط والارتجال في تصوراتها وأهدافها، وبالتالي، في ممارستها السياسة وأدوارها العملية. وإذا كانت المعارضة السورية قد قامت بجهد لتعويض النقص في إطار ذلك، بدءاً من ميثاق المجلس الوطني السوري، إلى وثيقتي العهد الوطني والعدالة الانتقالية اللتين أقرهما مؤتمر المعارضة في القاهرة صيف 2012، إلى وثائق المنظمات السياسية السورية الناشئة في خضم الثورة، وحتى مواثيق الفصائل المسلحة وجبهاتها وتحالفاتها المختلفة، فإن التخبط استمر في ساحة الثورة. وأوضح الأمثلة على ذلك، الخلاف الذي نشب داخل صفوف ناشطي المعارضة ومنظماتها، قبيل انعقاد مؤتمر جنيف 2. إذ أصدر المجلس الوطني السوري بياناً برفض المشاركة فيه، وأعلن انسحابه من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، كما فعل قسم من أعضاء الائتلاف ذلك، ثم عاد الجميع، سريعاً، إلى حضنه، بعيد انتهاء أعماله واتضاح فشله، وكذلك رفضت منظمات مقاتلة أخرى تلك المشاركة، بل ذهبوا إلى درجة تخوين المشاركين فيه.
بذلك، لم يكن انعقاد مؤتمر جنيف الثاني كاشفاً، فقط، على فقدان إمكانات الحل السياسي بين السلطة والمعارضة، بل كان، أيضاً، دليلاً على تخبط المعارضة السورية، وفقدان الوعي التاريخي للعلاقة بين السلاح والسياسة. فبدلاً من أن تقود السياسة السلاح، وفق التعبير الشهير: “الحرب استمرار للسياسة لكن بوسائل أخرى”، تغلبت في إطار المعارضين رؤية سلاحوية، أقصت دور كلٍّ من السياسة والوعي، وأدت إلى تنامي العسكرة، وما يرتبط بها من عنفٍ وإرهابٍ ومناخاتٍ، لم تناسب إلا تجار السلاح وأمراء الحرب. وذلك كان انعكاساً شبه ميكانيكي، لفعالية قانون الفعل ورد الفعل، أدى إلى الوقوع في مطب ممارسات النظام الذي كان قد تخلى عن كل سياسة، حين لجأ إلى إرهاب الشعب، المنتفض بالعنف العاري، والمنفلت من كل عقال، دافعاً به إلى حدودٍ غير مسبوقة ومحرمة دولياً، ما شكل دورة مغلقة من الإرهاب المتبادل، بدأ جحيمها يذهب بالبلاد والعباد، ولا يفيد في التخلص من شركها، الهروب المعتاد إلى أخلاقيات البادئ أظلم!
فضلاً عن ذلك، تراجعت في مناخ هذا الجحيم النشاطات السلمية للثورة، وتقدمت نشاطات منظماتٍ لم يكن لها أصلاً أي علاقةٍ ببدايات الثورة وأهدافها الأولى، وكانت قد دخلت متأخرة ومستفيدة من اضطراب المجال السوري، متجلية ومركزة بأوضح صورها في داعش، وهو الذي فتحت له دورة الإرهاب الفرصة لإنشاء خلافته المزعومة، كما فتحت الفرصة مجدداً لتدخل المصالح الدولية والإقليمية بحجة مكافحته، وهي مصالح لم تكف سابقاً عن التدخل، نظراً لأهمية موقع سورية ودورها.
ويبدو، اليوم، أن الثورة السورية تواجه أخطر مراحلها، إن لم تحسم أمر عفويتها، وتتجاوزها إلى توحيد رؤيتها، ووعي أهمية القضاء على جذور الإرهاب، الكامنة في بنية النظام السياسي التمييزي الذي ولّده، وهو صلب ما ينبغي أن تنصرف إليه أية مكافحة مزعومة للإرهاب، بدلاً من ردود الأفعال عليه، والتي تسعى إلى تكرار نظامه بصور مختلفة، وذلك أقل ما يستحقه استمرار هذه الثورة، والتضحيات العظيمة التي قدمها، وما زال يقدمها، الشعب السوري.
عن العربي الجديد
التعليقات مغلقة.