الإعلام العربي .. تقدم في “الكم” لا “الكيف”
د.عبد الله المدني
«الإعلام العربي: الواقع والمستقبل» هو العنوان العام الذي انعقدت تحته الدورة 18 لمنتدى الإعلام العربي بدبي في الفترة من 27 ــ 28 مارس تحت رعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بحضور الآلاف من الإعلاميين والمفكرين والأكاديميين وصناع الحدث، وبمشاركة المئات من المتحدثين، وهو عنوان موفق جاء في وقته كي نقارن واقع إعلامنا الراهن بما نأمل منه في مستقبل متسارع ومقبل على تغيرات مدهشة.
من خلال حضوري جلسات المنتدى تبين لي وجود إجماع على أن واقع الإعلام العربي بجميع منصاته المرئية والمسموعة والمكتوبة والرقمية مخيب للآمال ولا يرتقي إلى ما نطمح إليه، وما تستوجبه تحديات المرحلة، ولا إلى مفهومه الجديد كصناعة وسلاح ناعم.
صحيح أن إعلامنا العربي تقدم كثيراً، لكنه تقدم فقط في «الكم» لا «الكيف» وينقصه الابتكار.
فهو في شكله الراهن لم يستوعب بعد أنه صناعة ذات تأثير مهول على صناع القرار، بل على المجتمع ككل أفراداً وجماعات وتنظيمات ومؤسسات مدنية، وأن بإمكانه أن يوجه الطاقات إيجاباً نحو تحقيق أهداف الوطن العليا والمصلحة العامة، بقدر ما يستطيع حماية هذا الوطن وإنقاذه من الوقوع في الهاوية، وبقدر ما يستطيع تقديم وجبة ساخنة للمتلقي من خلال قراءة ما بين سطور الخبر وما وراءه وما يعجز المتلقي عن فهمه أو ما تحاول بعض الجهات إخفاءه عنه.
وبالمثل فهو لم يستوعب بعد أنه سلاح لا يقل أهمية عن المدفع والدبابة لجهة التصدي للأعداء وتفنيد أجنداتهم في زرع الفتنة وشق الصفوف، وتعزيز اللحمة الوطنية كي لا نقول أنه ــ من حيث يدري أو لا يدري ــ يساهم من خلال منصاته التويترية وما شابهها في صناعة الكراهية وبعث العصبيات المقيتة التي تجاوزتها الأمم الحية.
المؤسف حقاً أنّ إعلامنا العربي لم يستفد من السنوات العجاف في تاريخه حينما كانت المنصات الإعلامية محدودة أو محتكرة من قبل أنظمة راديكالية كل هدفها التحريض من أجل قلب الأنظمة السياسية العاقلة والمعتدلة باستخدام الصوت الأعلى واستئجار الأبواق المستعدة لتغيير ولائها من جهة إلى أخرى بحسب الثمن المقبوض.
هذا عن الواقع الراهن فماذا عن المستقبل؟
كل المؤشرات المستقبلية تفيد بأننا مقبلون على مرحلة غير مسبوقة في تاريخ البشرية لجهة تطور الإعلام من حيث الوسائل والتقنيات وعدد المنابر وسرعة نشر الخبر والمعلومة، وأساليب فبركتهما وتوجيههما إلى المتلقي كحقيقة مؤكدة.
وعليه فإننا سنكون في المستقبل أمام تحد إعلامي جديد، لا أعتقد أننا أعددنا له العدة كما يجب. فلا إذاعاتنا قادرة على تشكيل وعي المستمع بما يحصّن ولاؤه الوطني ضد الأخبار المزيفة، ويحميه من الوقوع في براثن الأعداء. ولا صحفنا الورقية قادرة على الاستمرارية وتقديم وجبة ثقافية وسياسية دسمة مستندة إلى توثيق مهني عال بدلاً من مقالات إنشائية خالية من التشويق والجاذبية.
ولا كتابنا الحاليون ــ أو معظمهم ــ قادرون على الكتابة الرشيقة المستولية على المشاعر والألباب كما كان يفعل من سبقوهم من أعلام الفكر والأدب والصحافة. ولا قنواتنا الفضائية قادرة على العمل باحترافية ومهنية وتقديم أفكار وبرامج مبتكرة بدلاً من استنساخ البرامج الأجنبية وتعريبها بصورة مشوهة.
نأتي الآن إلى الطامة الكبرى المتمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي من تويتر وفيسبوك وأخواتهما. لا شك في أن هذه الوسائل صارت اليوم من أكبر المنصات الإعلامية وأوسعها وأكثرها جذباً للمتلقي ولسوف تشهد السنوات المقبلة تطوراً مهولاً في سرعتها واستخداماتها وتعلق الجماهير بها في حياتهم على مدار الساعة.
صحيح أن هذه الوسائل تجاوزت كل الوسائل الإعلامية الأخرى في سرعة نقل الخبر والتعليق عليه سلباً أو إيجاباً، وصحيح أنها حررت المتلقي من سطوة الإعلام الرسمي البطيء ورموزه الموصوفين بالكسل أو الحذر أو كليهما، لكن الصحيح أيضاً هو أن هذا الفضاء الافتراضي طافح بالرديء والجيد، وربما كان الرديء أكثر من الجيد، لأنه فضاء مفتوح لكل من هب ودب دون أدنى قيد لجهة الخبرة والخلفية والثقافة والمرجعية الخبرية والمعلوماتية للمستخدم، الأمر الذي يسهل معه الترويج للأخبار والمعلومات غير المؤكدة من تلك التي تقسم ولا تجمع في وقت نحن فيه أشد ما نكون للتلاحم.
وبطبيعة الحال هناك من يدعو لوضع الخطوط الحمراء لحالة الفلتان والفوضى هذه من منطلق حماية ثقافتنا وتقاليدنا «الخاصة». وهناك من يطالب لنفس السبب بضبطها وفرض الرقابة الرسمية عليها، كما تفعل الصين مثلاً، غير أن الأسلوب الأمثل من وجهة نظري هو توعية المستخدم بفوائد ومضار هذه المنصات. وإذا كانت عملية التوعية هذه تحتاج إلى جهد زمني طويل فلا بأس من عملية تنظيم مؤقتة وليس عملية حجب ورقابة.
ومن المناسب هنا الإشارة إلى أن بعضاً من أعرق دول العالم لجهة حرية التعبير تتجه اليوم لفرض رقابة على ما يظهر في وسائل التواصل الاجتماعي من آراء وتحليلات وتعليقات، بل وسرقات لحقوق الملكية الفكرية.
فعلى سبيل المثال قام الاتحاد الأوروبي مؤخراً بتفعيل قوانين حقوق النشر والتأليف لتطبق على «الفيسبوك» التي لها مستخدمون قد يشاركون بتعليقات سلبية على كتاب أو منتج فني فيتسببون في خسارة صاحبه. وبالمثل قامت فيسبوك مؤخراً بالتشدد حيال كتابات وتعليقات من شجعوا الكراهية والعنصرية البيضاء بُعيد جريمة المسجد النيوزيلندي.
نقلا عن “البيان”
التعليقات مغلقة.