وحشة (بشأن الدجاج)
زاوية يكتبها طه خليل
يقول ابن سيده في شرح الدجاجة: سميت الدجاجة دجاجة لإقبالها وإدبارها، يقال: دج القوم يدجون دجيجا إذا مشوا مشيا رويدا في تقارب خطو، وروى ابن ماجة من حديث لابي هريرة أن النبي أمر الأغنياء باتخاذ الغنم وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج وقال: عند اتخاذ الاغنياء الدجاج يأذن الله بهلاك القرى.
فيما مضى كانت القرى الكردية في الجزيرة مداجن، لكثرة ما يربي القرويون الدجاج بأنواعه الداجنة من بط وأوز والدجاج الحبشي والحمام بالإضافة طبعا للدجاج المنزلي المعروف. كانت أيام لم يكن للمداجن الاصطناعية من وجود يذكر، وكانت كثرة قطيع الدواجن في بيت ما يشير على الفور إلى “شطارة” ربة البيت وحسن تربيتها واهتمامها بشؤون بيتها والمشاركة في أعباء الحياة المعيشية، بعكس الشاعر بشار بن برد حين كتب ساخراً من ربابة ومن الشعر المستحدث قائلا:
ربابة ربّة البيت تصبّ الخل في الزيت
لها تسع دجاجات وديك حسن الصوت
مع الأيام تناقص الاهتمام بتربية الدواجن، بعد زحف الآلات المصنعة للدجاج وللبيض معا، فظهر الفروج الأبيض للطبخ مع الرز والبرغل، والدجاج الأحمر الأقل ثمنا لإعداد المرقة، ونوع ثالث يسمونه “الاميات” أو الأمهات، وهو دجاج أبيض اللون لكنه أكبر حجما من الفروج، ولكلّ سعره ومذاقه، وصار في كل مدينة من مدننا المحروسة سوق يسمى “سوق الدجاج”، وترى الباعة قد تفننوا في وضع اللوحات المضيئة التي تروج لدجاجهم وفراريجهم فهنا تقرأ: فروج السعادة، ومقابله مطعم جودي لجميع أنواع الفراريج المشوي والمسقف والنيء، و”مستعدون لتلبية طلبات المنازل” وفي الزاوية فروج الباسل، والذي اختار الاسم لترويع جُباة البلدية وشرطتها، وعلى بعد أمتار يكتب آخر اسم محله: فروج تشرين تيمّنا بحرب تشرين التحريرية، وعلى بعد من ذاك: فروج الصمود والتصدي. يقف على الباب صبي متسخ الثياب ببقع الدم وبيده سكين، ما ان تنظر إلى دجاجة حتى يتصدى لها و”يبطحها” أرضا يدوس جناحيها ببوطه البلاستيكي، يجزّ رقبتها بلمح البصر، ثم يقذفها من مكانه باتجاه آلة النتف في آخر زاوية المحل، لتسقط الدجاجة وهي ترقص من الألم في ما يشبه الحوض تدور فيه أسنان وقطع بلاستيكية تنتف الدجاجة في أقل من دقيقة، ثم يضعها في كيس بلاستيكي أسود ويقدمها للزبون وهي لا تزال تنبض في الكيس.
على الأرصفة المقابلة يقف بعض الرجال الملثمين، الغاضبين دوما، وقد مددوا على الرصيف أكواما من الديكة الحبشية مرمية ومصفوفة بشكل طولاني، مربوطة الارجل، تحدق بالمارة، وتنتظر من يشتريها ليذبحها ويخلصها من عذاب القيد والرمي على الرصيف ذليلة منكسرة، بعد ان كانت وقبل أيام تذرع بيادر القرية ذهابا إيابا كملوك مهابة في ممالك الطير. ولكن قلما يقف زبون ليشتري، فهي غالية الثمن، وبائعوها يتصفون بعدوانية لا مثيل لها.
كثرة الدجاج الصناعي هذا جعل من صنف آخر هو “الديك الرومي او الحبشي” يسود على الأنواع الأخرى، ويرتفع ثمنه، حتى وصل سعر الديك الواحد الى ما يقارب العشرين دولارا، وهذا كثير قياسا الى الدخل الشهري للمواطن عندنا، وصار الديك الرومي رمزا من رموز الولائم الكبيرة حيث الترف والتلذذ بنكهات الحياة التي صارت بدورها تقسو على ناسها وطبيعتها في الوقت نفسه.
صار لأهل الجزيرة نكاتهم وأحاديثهم عن الفروج والدجاج ومنها: في بلدة عامودا كان “حجي يحيى” يبيع الفروج على عربة، ويقف مع البائعين الآخرين. توقف زبون بالقرب من عربته، ألقى نظرة على دجاجاته، ثم تحول إلى جاره واشترى منه، هنا اقترب حجي يحيى من الزبون، أمسك بكتفه وهزه متسائلا: قل لي! أولم تعجبك دجاجاتي لتشتري من جاري، قل لي إن كانت دجاجاتي عاهرات، كي يكون لي شأن آخر معها.
تلك وحشة الدجاج .. وحشتي في هذه البلدة.
نشر هذا المقال في العدد /83/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/8/2018
التعليقات مغلقة.