وحشة (من وحشة القرية)
زاوية يكتبها طه خليل
سهر:
كانت فتيات الغجر يرتيدين ثيابا فاضحة، ويقمن بزيارات ليلية الى مضافة الآغا.. أو مختار القرية.. فيجيء الفلاحون الى المضافة.. ليجلسوا لصق الحيطان على بسط صوفية، وهم يحدقون بلحم بض.. لا يشبه لحم نسائهم المدهون بكل غبار البراري.. وكان الغبار وذرات التبن يتسلل الى أماكن أخرى من أجسادهن.. أماكن يحرسها الفلاح كما يحرس محصوله.. اما تلك الغجريات فكن يقدمن لهم صورة أخرى و” قطعا ” جديدة ولامعة من جسد جديد.. ويسيل لعابهم على فساتين حمراء مقصبة، وحين كان عدد الحاضرين يكتمل.. ينهض رجل جاء بصحبة الغجريات و كان على الأغلب قصير القامة نحيلا واسمر اللون.. خصي.. وله أسنان ذهبية في مقدمة فكه، ليقوم بمدح تلك الفتيات.. ويشحذ هممهن.. ويصفق.. ويرقص لهن.. ويصفعن بعبارات جميلة فيتحدث عن عطر سميرة الفواح من على بعد ثلاث قرى، وأصابع يسرى التي تبدو كسجائر كنت، وحواجب احلام التي كالسيوف، وينطنط حولهن كي ” يسخّن الجو “.. فتقوم بعد ذلك تلك الفتيات بالرقص.. والارتماء في أحضان رجال بائسين، حزانى من الأعماق، لسلبهم بعض دريهمات تبقت من بيع المحصول، ذلك الرجل كان يدعى : أبو حشيش، أو الزرتك، وطبعا الغجريات كنا نسميهن يومها بـ ” الحجيات “.
أبوحشيش.. يتقدم الآن على الفضائيات باسم : محلل استراتيجي.. وصحفي وناشط حقوقي.. وحينا كعضو في مجلس شعب ما، أما الحجيات.. فقد اتجهت الكثيرات منهن لكتابة الشعر والرواية، أو الاشتراك بتمثيل مسلسلات رمضان، وانسحبت الممثلات الحقيقيات إلى غابات لا دماء فيها، كما انسحب الشعراء والكتاب الحقيقيون إلى ظل الموت البطيء، تلك وحشة بلد يدفع بأبنائه إلى الهاوية، وإلى مجد زائف ومقزز.
لحم:
كان المعلمون يأتون إلى قرانا من ” الداخل ” أي من حلب ودمشق ودرعا والسويداء، واغلبهم كان من درعا والسويداء، إلا في السنوات الأخيرة من زمننا ذاك صارت تأتي دفعات من معلمي ” الساحل ” للتدريس في قرانا البائسة، كان للمعلم حظوة تقاس بحظوة مدير الناحية، واحيانا رئيس الجمهورية، كان اهل القرية يتناوبون في تقديم الطعام لهم، والبيت الذي يحين دوره كان يبحث الأهل في كل زواياهم ليطبخوا للمعلم طعاما فريدا، وعلى الاغالب كان بيضا مقليا بالسمن البلدي، وصحن من اللبن او القشدة، وكان المعلمون يتأففون من طعام ذوينا، وكنا نستغرب كيف لا يحب المعلم البيض المقلي، فكان يشط بنا الخيال لنتصور ما كان يأكله في بيته الذي هو في ” الداخل ” كان خيالي يقول لي: الأرجح هم يذبحون ال” درمالة ” أو ” الربيطة ” كل أسبوع مرة وهو لا يأكل إلا لحم الربيط من الخرفان التي تتهدل اليتها شحما ومرقا نيئا .
وللربيطة أو الدرمالة قصص يعرفها الكثيرون منا، فقد كان الاهالي يقومون بربط خروف او اكثر في زاوية من زوايا الحوش، ويتم اطعامه طيلة شهور الربيع والصيف ليسمن حتى اواخر الخريف، فيكاد الربيط لا يتحرك من مكانه من كثرة السمن والشحم واللحم الذي اكتسبه بالرعاية الخاصة، وخلال ايام يتناوب القرويون في ذبح ” درمالاتهم ” ويبدأون بشوي اللحم من الصباح حتى المساء، في اليوم الاول، ومن ثم يحتفظون بباقي اللحم لايام الشتاء، ولان الزمن ذاك لم يكن زمن برادات وكهرباء فكان الاهالي يحتفظون به مملحا في صفائح تنك او في عكة ” وهي جلد الغنم، كالقربة التي كانوا يخضون فيها اللبن لاستخراج السمن منه، ” ويتناوبون على ذاك اللحم في طبخ الشتاء.
كانت الوحشة انني لم اكن احبذ لحم الدرمالة، فوجود الخروف في الحوش لعدة اشهر، ومروري به كل يوم واطعامه كان يخلق لدي حالة صداقة حقيقية معه، وعندما كان الوالد يتحضر لذبحه كنت ابتعد عن القرية ولا اعود الا في الليل.
تلك وحشة لازمتني الى يومنا هذا، وانا أرى قطعان الخرفان محملة بالشاحنات متجهة الى سيمالكا ثم الى جنوب كردستان ومن ثم الى دول الخليج وذبحها هناك.
يا لوحشة الخراف و وحشة المعلمين الذين كانوا من الداخل، و وحشتي التي ربطتني بقرن خروف اعبس يزورني خياله في المنام كلما نمت حزينا من فراق الرسولة.
نشر هذا المقال في العدد /82/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 1/8/2018
التعليقات مغلقة.