حول انتحار ماياكوفسكي

26

 

 

 

 

 

 

 

لا زال حادث انتحار الشاعر والكاتب المسرحي الروسي السوفيتي الشهير فلاديمير فلاديميروفتش ماياكوفسكي (1893- 1930) في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم 14 /4 /1930   يثير التساؤلات والآراء المختلفة والمتضاربة وحتى المتناقضة حوله , رغم مرور كل هذه السنين  على الحدث التراجيدي الرهيب هذا , والذي كان ضمن الموضوعات شبه الممنوعة او – كما يمكن لنا ان نقول الآن –  غير المرغوب الكلام عنها علنا بشكل او بآخر في الزمن السوفيتي آنذاك , وقد تصفحت قبل ايام ليس إلا ما يقرب من عشرين مصدرا باللغة الروسية حول هذا الموضوع يتناول فيها الباحثون هذا الحدث ويقومون بتحليله ويطرحون  مختلف الاحتمالات والاجتهادات الذاتية والتفسيرات الخاصة حوله , وهو ما جعلني أقرر العودة الى هذا الموضوع القديم نسبيا – والمعروف للقراء العرب بشكل او بآخر – والكتابة عنه , اذ وجدت – مثلا –  بحثا بعنوان  ( الانتحار في نتاجات ماياكوفسكي ) يحاول فيه كاتب البحث ان يثبت ان ماياكوفسكي كان يفكر بالانتحار منذ زمن بعيد , لأنه ( أي الباحث ) وجد في ثنايا قصائده فكرة الانتحار هذه , مؤكدا ان عملية الانتحار تولد تدريجيا  في روح الإنسان وعقله وليس رأسا او فوريا.

 

ولهذا فان الباحث لاحق هذه الفكرة وتابعها في ثنايا وسطور نتاجات ماياكوفسكي وحتى ما بين سطورها و ظلالها , وهذه أفكار تستحق ان نتوقف عندها وان نتأملها بعمق ( بغض النظر عن اتفاقنا او عدم اتفاقنا معها ) , خصوصا وان الرسالتين اللتين أبقاهما ماياكوفسكي عندما انتحر كانتا هادئتين جدا وسلستين وواضحتي المعالم ولا تشيران لا من قريب ولا من بعيد الى اي اضطراب نفسي او معاناة لهذا المبدع الكبير وهو يقدم على تنفيذ عملية الانتحار المرعبة و الرهيبة هذه . ان أهمية هذه النظرة الجديدة جدا ( والمنطقية أيضا الى حد – ما ) لهذا الباحث الى مسألة انتحار ماياكوفسكي تمتلك حتى أبعادا سياسية , و تكمن هذه الأبعاد في ان القوى المضادة لثورة أكتوبر البلشفية عام 1917 ترى , ان انتحار( شاعر الثورة الاشتراكية ) كما كان يطلق عليه البعض من نقاد الأدب والباحثين , يعني انتحار تلك الثورة نفسها , اي نهايتها, اذ انهم يؤكدون , ان ماياكوفسكي قد فهم واستوعب تماما الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بتأييده للثورة والالتزام العلني الصارخ والمطلق تجاهها , وبما انه لا يستطيع إعلان ذلك بشكل صريح في ذلك الزمن , وكذلك لا يرغب باللجوء الى بلد آخر خارج روسيا كما فعل بعض الأدباء الروس الذين لم يتقبلوا الثورة عندها , وبالتالي لم يبق لديه أي خيار آخر سوى الانتحار , وان انتحاره ( وهو شاعر الثورة ويكاد ان يكون الناطق الرسمي باسمها في جبهة الفن ) يعني بداية العد التنازلي للثورة نفسها , اي ان عملية انتحاره تمتلك معاني سياسية محددة انتهت بانهيار دولة الثورة , اي الاتحاد السوفيتي , ولهذا فان ما يذهب اليه ذلك الباحث يلغي كليا هذه النظرة السياسية الشائعة ( وخصوصا في الأوساط الغربية المضادة للاتحاد السوفيتي ككيان سياسي وحتى في بعض الأوساط الروسية نفسها ) الى موضوع انتحار ماياكوفسكي .

 

وجدت ايضا – في ثنايا تلك البحوث والمقالات الحديثة عن انتحار ماياكوفسكي – ان التساؤل حوله لا زال حيويا , وان البعض يطرح ولحد الآن سؤالا تم طرحه في حينه وتم غلقه في حينه ايضا , وهو – هل ان انتحار ماياكوفسكي كان انتحارا حقيقيا فعلا ام كان عملية قتل متعمدة غطٌوها بتسمية الانتحار ؟ خصوصا بعد ان تم طرح موضوع قتل الشاعر الروسي الكبير يسينين في وسائل الإعلام الروسية , وبالذات بعد المسلسل التلفزيوني الروسي حول يسينين وموته قبل عدة سنوات ليس الا , والذي أثار آنذاك ضجة كبيرة في المجتمع الروسي . وهذا يعني بالطبع ان بعض الأوساط الروسية لا زالت تظن , بل وتعتقد جازمة , ان ماياكوفسكي لم ينتحر ولا يمكن ان ينتحر , وان هناك من قتله متعمدا وحسب خطة مدروسة تم وضعها خصيصا للتخلص منه, واننا لا زلنا لا نعرف الحقيقة بشان هذا الموضوع رغم مرور اكثر من ثمانين سنة على ذلك , وهذا يعني طبعا ان الموضوع سياسي بحت ويمتلك علاقة مباشرة بالثورة وأجهزتها المخابراتية ومسيرتها , وبالتالي فانه يتناقض كليا مع الرأي الأول الذي أشرنا اليه أعلاه حول انتحار الثورة البلشفية ونهايتها , و اذكر اني سألت أحدى الروسيات مرة – هل تعتقدين ان ماياكوفسكي قد انتحر فعلا أم قتلوه , فأجابتني رأسا وبشكل قاطع – قتلوه طبعا لأن صوته كان مسموعا ومدوّيا , ولم يكن من السهل إسكاته او الالتفاف حول رأيه , وأضافت , أنها على ثقة ان الوثائق والحقائق سيكشف التاريخ عنها يوما – ما لاحقا .

 

ووجدت في تلك المواضيع ايضا تكرارا لطرح القضية العاطفية لماياكوفسكي وأزمته الروحية التي ربما أدّت به الى الانتحار , تلك القضية التي تحدّث عنها الإعلام الرسمي السوفيتي في حينه , عندما وقعت عملية الانتحار التراجيدية في الثلاثينات , ولكن بتفصيلات اكثر صراحة وجرأة مما كان يتناوله الإعلام آنذاك , مستخدمين تلك الحوارات التي نشرتها وسائل الإعلام الجماهيري الروسي الحديث مع تلك السيدات , اللواتي عاصرن ماياكوفسكي بشكل او بآخر , وكنّ شاخصات في محيط حياته , ومن جملتهن بالطبع “ليلي بريك” ( تكتب بعض المصادر العربية اسمها – “ليلا” وهو ليس دقيقا, اذ أنها ليلي – بالياء وليس بالألف المقصورة مثل الاسم العربي المعروف ليلى ) , والتي أشار ماياكوفسكي في رسالته قبل الانتحار اليها كاول اسم جاء بعد كلمة ( عائلتي ) رغم أنها كانت زوجة بريك رسميا وتحمل لقبه , وهي شقيقة الزا تريوليه – زوجة الشاعر الفرنسي الكبير لوي اراغون وبطلة دواوينه المشهورة ( مجنون الزا , عيون الزا…..), والثانية اسمها فيرونيكا بولونسكايا ( جاء اسمها في تلك الرسالة ايضا بعد شقيقاته ) – الممثلة المسرحية ذات الـ 22 ربيعا , والتي كانت عند ماياكوفسكي وخرجت ذاهبة الى مسرح موسكو الفني للتدريب على احدى المسرحيات , وسمعت وهي في الممر صوت اطلاق النار في غرفته , وعادت وهي تصرخ … وهذا موضوع طويل ومتشابك و يحتاج الى مقالة خاصة به , اذ يرتبط بتفاصيل التحقيق الذي أجرته السلطات الرسمية في حينه , ويرتبط ايضا بعدة تحقيقات صحفية قام بها العديد من الصحفيين الروس بعدئذ بحثا عن حقيقة انتحاره والملابسات التي أحاطتها , مرورا بتلك المقابلات الصحفية التفصيلية مع معاصريه والمذكرات والذكريات التي كتبوها عنه وعن معاناته .

 

موضوع انتحار ماياكوفسكي – باختصار – لا زال مطروحا وبحيوية , ولا زال مفتوحا أمام الباحثين , ولا زال ينتظر ذاك الذي سوف يكتشف أسراره ويعلنها أمام العالم .

د.ضياء نافع

جريدة المدى

التعليقات مغلقة.