المعارضة التركية من معارك خاسرة إلى هزيمة في الحرب

37

 

زياد وطفة

مع مطلع الألفية الثانية كانت تركيا قد دخلت في أزمة اقتصادية خانقة، أطاحت بالحكومة آنذاك، ليظهر حزب العدالة والتنمية بخطاب ليبرالي ذو سمة يسارية داعم للعمال والفقراء والحريات العامة، ومن جهة أخرى نال خطابه الليبرالي رضا مراكز الرأسمال العالمي ونالت حكومته قروضا مع تسهيلات كبيرة، استثمرت في قطاع المواصلات والبناء وحسب تقارير إعلامية فقد كانت تركيا تشهد بناء مليون وحدة سكنية سنويا، مما حرك عجلة الاقتصاد قدما، وتراكمت الديون أيضا، كما أن الهدوء النسبي الذي حقته الهدنة مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني، أدى إلى ازدهار السياحة التركية والتي وصل حجم مساهمتها إلى 40% من الإنتاج الوطني.

الأمر الذي وسع من حجم الطبقة الوسطى التركية، والتي كانت في الغالب الأهم من جذور الأقليات الدينية والعرقية، والتي لم تجد سبيلا للوصول لحياة أفضل في ظل سياسات التهميش سوى اللجوء إلى القطاع التعليمي، وأسس ذلك جيشا من الموظفين في كلا القطاعين العام والخاص.

فكانت سياسات حزب العدالة والتنمية تلقى قبولا لدى الطبقة الوسطى عموما. ولكن ومن الجهة المظلمة أن الحزب الحاكم كان يجني الربح السريع عبر خصخصة القطاع العام، ولم تسلم حتى القطاعات الأشد حساسية من الخصخصة بما فيها قطاع الطاقة الكهربائية وصناعة الادوية، ناهيك عن السلاسل التجارية الكبرى، والتي كانت تذهب بمجملها لحساب المتنفذين في السلطة، بالإضافة إلى تراكم الديون الخارجية، ورغم التسهيلات فقد تضاعف 3 مرات عن ديون الحكومة السابقة.

علاوة على اشتعال الحروب في العالم العربي بعد 2011 انخرطت تركيا في الحرب وفقد السلام الأهلي. وبالتالي فقدت تركيا أهم عوامل التنمية المتمثلة بالسلام الداخلي والسياسات الخارجية العدائية، وفقدان موارد القطاع العام، وتضاعف المديونية الخارجية. وعليه بدا واضحا أن المجتمع التركي انقسم إلى طبقة غنية مالكة للسلطة، ووسطى مهددة بخسارة مكتسباتها، وطبقة فقيرة مهمشة وواسعة غير منظمة سياسيا انحازت إلى انتماءاتها العرقية والطائفية.

وكان من الطبيعي أن يتزعزع الاقتصاد التركي ويؤذن بعهد قاس، مما أثار الطبقة الوسطى على المجوعة الحاكمة، استثمر فيه حزب الشعب الجمهوري ( CHP) في اليسار الوسط وخلق كتلة من المؤيدين، ولأول مرة عبر تاريخه يخرج الحزب بمظاهرة تحت شعار “العدالة” والتي قادها رئيس الحزب كمال كيليتشدار أوغلو ولقي الاحتجاج الجمهوري ترحيبا في أوساط اليسار التركي، ولا سيما أكبر أحزاب اليسار الماركسي حزب العمل (Emek Partisi) وفي ذات الفترة تقريبا، كان قد انشق 7 نواب عن الحركة القومية ( MHP) 41، تحت مسمى حزب الطيبة ( İYİ parti) بزعامة ميرال أقشنار (Meral Akşener) وزيرة الداخلية السابقة المعروفة بمواقفها المتطرفة اليمينية. وسرعان ما تقارب حزب الشعب الجمهوري (CHP)مع المنشقين الجدد عن الحركة القومية. في مواجهة العدالة والتنمية من جهة ومواجهة الحركة الكردية ولا سيما حزب الشعوب الديمقراطي.

وبالتالي أدى التقارب بين اليسار الوسط واليمين المتطرف إلى شق عصا الطبقة الوسطى، ووضعها بين خيار دعم السلطة الحاكمة وضمان الاستقرار السياسي على حساب الديمقراطية، أو الجنوح إلى النزاعات التي يثيرها الخطاب الشعبوي لدى اليمين. بالإضافة إلى خيار دعم حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، وهو فعلا ما حدث عشية 24 من حزيران الجاري.

فقد تبنّى تحالف الشعب (Milli İttifak) الذي جمع الجمهوريين والقوميين المنشقين، شعارات شعبوية، لم ترق لمجمل الطبقة الوسطى والتي فضلت التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي وهذه المرة دون تنسيق مسبق على خلاف ما حدث في انتخابات 2015، واستطاع حزب الشعوب (HDP) منفردا (دون تحالفات) أن يتعدى العتبة الانتخابية، ولكن على حساب أصوات كانت محسوبة تاريخيا للشعب الجمهوري، ولكن عدد الأصوات الأعظم كان قد نالها حزب الشعوب الديمقراطي كانت من المدن ذات الغالبية الكردية، مما حوله إلى حزب محليّ منغلق إلى حدّ ما وأفقده الجمهور الوطني. إذ لم يستطع خلال السنوات الأربع الماضية تقديم خطاب وطني موثوق لدى الشارع التركي، كما كان اعلان مشروع الإدارة الذاتية فيما بعد فوزه في انتخابات 2015 أثرا بالغا في مسيرته السياسة والتي عززت من الصبغة القومية على حساب الوطنية كما وضع مسافة بينه وبين الأحزاب اليسارية الماركسية، بما فيها المؤسسة لجبهة الشعوب الديمقراطية قبل تحولها إلى حزب مستقل، كما أضعف قاعدته الشعبية الكردية أيضا ففي الانتخابات السابقة حاز الحزب على 70% من أصوات ديار بكر أكبر معاقله، ولينخفض إلى ال60% لهذه الدورة الانتخابية في الولاية نفسها. بمعنى أن الأخطاء التكتيكية أودت بمستقبل الحزب السياسي، الذي كاد أن ينافس أكبر أحزاب المعارضة، وحرم القضية الكردية من حلها داخل أروقة البرلمان سلميا. ومن ناحية أخرى فإن حملة الاعتقالات التي طالت قيادات حزب الشعوب الديمقراطي كان لها أثر إيجابي، إذ أكسب الحزب تعاطفا في الأوساط الليبرالية، ولا سيما مشهد ترشح صلاح الدين ديميرطاش من معتقله.

ومن ناحية أخرى فإن الأحزاب اليسارية لم تتمكن من تنظيم الطبقة المهمشة والفقيرة، نقابيا وسياسيا، رغم محاولات حزب العمل التركي (Emek Partisi) الحثيثة في ذلك السبيل. وكان لرفض يسار الوسط تقبل الرأي الآخر أثرا بالغا على الطبقات الفقيرة والمهمشة إذ يرفض حزب الشعب الجمهوري (CHP) الحوار على القضايا الأهم تركيا ولا سيما جهة نظر اليسار حول القضية الكردية والسياسات الليبرالية. الذي حد من قدرة اليسار على تنظيم الطبقات الأكثر فقرا. وذلك لانحياز حزب الشعب الجمهوري إلى اليمين المتطرف ورغبته في كسب جمهور من القوميين.

وعلى الضفة الأخرى فقد عزز فشل المعارضة من مواقع التحالف الجماهيري (Cumhur İttifakı) والذي ضم حزب العدالة والتنمية (AKP) والحركة القومية (MHP)، وبدا على أنه المنقذ للمستقبل الاقتصادي التركي والذي كسب أصوات الطبقات الفقيرة المهمشة على أسس دينية وجزء من الوسطى، وكان قد ضمن الطبقات الغنية التي تشكلت عبر الشركات الاحتكارية ذات المصلحة في بقاء الإدارة الحاكمة الحالية. بالإضافة إلى جزء من الطبقة الغنية المهددة بالإفلاس، والتي عجزت عن دفع ديونها بعد الازمة الاقتصادية التركية خلال السنوات الثلاث الماضية، إذ تلقت وعدا من حكومة بن على يلدرم (Binali Yıldırım) بإعادة جدولة ديونها والتي يبلغ اجمالي حجها 6 مليار دولار. وبالتالي تعلقت مصالحها الاقتصادية بالمجموعة الحاكمة. كما أن تفرده في السلطة خلال السنوات السابقة أتاح له فرصة ذهبية في التحكم في سير العملية الانتخابية في مناطق نفوذه، وهو ما يفسر النسبة العالية من المصوتين والتي تجاوزت ال 90%.

وعليه تبدو تركيا تسير في اتجاه تنفيذ التعديلات الدستورية، التي ستحول نظام الحكم في تركيا، من برلماني حكومي إلى رئاسي، والذي سيمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة (تشريعية وقضائية وتنفيذية). كما أن سياسات تركيا الخارجية لن يطرأ عليها تغيرات على المدى المنظور. كما أن السياسات الداخلية ستحتفظ بطبيعتها التي سادت السنتين الآخرتين في ظل حالة الطوارئ وإن رفعت إلا أن حالة الطوارئ لم تكن تعني شيئا إلا وضع النظام الرئاسي قيد التنفيذ لا على أساس الدستور بل بالقانون.

نشر هذا المقال في العدد /80/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 1/7/2018

 

التعليقات مغلقة.