في سبر ظاهرة عفرين

40

 

 

شيرزاد اليزيدي

 

أكثر من شهر من المقاومة الأسطوريّة في عفرين ضدّ الغزو التركي – التكفيري والتي لا نظير لها في تاريخ مقاومات الشّعوب وحركات التحرر الوطني وملاحم التصدي لقوى الاحتلال والغزو، فلئن كانت مقاومة سري كانييه المظفّرة باكورة تصدي روجآفا كُردستان ( كُردستان سوريا ) للاحتلال التركي عبر جبهة النصرة ونحو ستين كتيبة إرهابيّة رديفة لها، ولئن شكلت مقاومة كوباني ذروة الانتصار على وكلاء أردوغان وغلمانه في داعش وأخواتها، لكن في عفرين ها هو سلطان الدواعش رجب طيب أردوغان يهزم مباشرة لا مداورة، وهنا تكمن خصوصية عفرين بوصفها درّة تاج مقاومة روجآفا وعموم الشمال السّوري؛ كون الدولة التركية -راعية الإرهاب وداعمته الأولى في المنطقة عموما وضد روجآفا خصوصا على مدى السنوات الماضية وبعد فشل كافّة محاولاتها عبر بيادقها التكفيرية الإرهابية لإجهاض تجربة شمال سوريا- اضطرت للتدخل مباشرة عبر جيشها وبمختلف الترسانات الحربية الحديثة التي يتوفر عليها هذا الجيش القاتل.

ففي كوباني، كنّا حيال جيش إرهابي جرار لا يقل عن جيش دولة، منظَّم لكن بغياب عامل الطيران الحربي لا بل أنّه بعد الأسابيع الأولى تدخل طيران التحالف الدولي لصالح وحدات حماية الشعب والمرأة، لكن في عفرين الأمر معاكس تماما فنحن إزاء حرب شاملة تقودها دولة يُعتبر جيشها الثاني بين جيوش حلف شمال الاطلسي ( الناتو ) وتعتمد بالدرجة الأولى سلاح الجو من طائرات نفّاثة ومروحيات وطائرات تجسس واستطلاع ورغم ذلك، فقد عجز جيش الاحتلال وبمعية آلاف مؤلفة من مرتزقة الجيش “الحر” أي القاعدة وداعش ومن لفّ لفهما عن إحراز تقدم ملموس ما خلا الاستيلاء المؤقت على بعض النتوءات الحدوديّة، فـ وفق المقاييس العسكريّة يمكن القول: إنّ أنقرة فشلت في تحقيق أهدافها في احتلال عفرين، وتشريد سكّانها ودفعهم نحو ترك بيوتهم وأرضهم، فعلى عكس مألوف نزوح وهجرة المدنيين في حالات الحروب زاد تمسُّك العفرينيين بمناطقهم ما يشكل ملمحا بارزا آخر من ملامح مقاومة عفرين، أو لنقل ظاهرة مقاومة عفرين بمعنى أنها حدث تأسيسي وفاصلة تاريخيّة ما بعدها ليس كما قبلها، وهي تستحق الدّراسة والإحاطة بالمقدمات الثقافيّة، المجتمعية والسياسية التي أنبتت هكذا إرادة فولاذية لا تهاب الموت ولا جحافل الفاشية القومودينية الأردوغانية دفاعا عن الإنسان وعن الأرض والزيتون وعن الحق والخير والجمال .

ومع دخول مقاومة عفرين شهرها الثاني ورغم توجيه الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة في عفرين منذ بداية العدوان التركي دعوة للحكومة المركزية في دمشق لتحمل مسؤولياتها في حماية الحدود الدولية لسوريا دونما تجاوب، لكن استمرار المقاومة وصد التوغُّل التركي وحصره في الخط الحدودي انعكس تبدُّلا في حسابات ورهانات مختلف اللاعبين والقوى المعنيّة وضمنها النظام السوريّ؛ الذي ليس سرا أنّ موسكو قبيل بدء العدوان التركي عرضت صراحة تسليم عفرين له مقابل منعها ذاك العدوان الأمر الذي قوبل بالرفض القاطع من قبل وحدات حماية الشعب التي برهنت هي وعموم قوات سوريا الديمقراطية العاملة في إقليم عفرين الفيدرالي قدرتها على صدّ العدوان التركي وإجهاض مراميه، ما جعل التفاوض مع دمشق من موقع قوة حول ضرورة اضطلاعها بدورها في حماية السيادة الوطنية السوريّة الأمر الذي تمخض أخيرا عن اتفاق لانتشار القوات الشعبية التابعة للجيش السوري حول عفرين وعلى الحدود مع تركيا والذي يفترض أن يشكل ردعا للطيران الحربي التركي، كون تلك القوات مزودة بالمضادات كما أعلنت هي عنه وهو المكسب الأكبر من وجودها كون قوات سوريا الديمقراطية في حال تحييد سلاح الجو كفيلة ولوحدها بدحر الاحتلال وأتباعه من فصائل الائتلاف والقاعدة المتكالبة على عفرين .

فتلبية الجيش السوري الدعوة لحماية الحدود والحال هذه إجراء عسكري بحت وإنْ كانت ستكون له بطبيعة الحال تبعات ايجابية لجهة تهيئة المناخ والأرضية للدخول في حوار سياسي شامل بين قامشلو ودمشق، قد يفضي لحلٍّ عادل للقضية الكردية التي هي محك التحول الديمقراطي السوري وفق نظام الفيدرالية الجغرافية لا القومية المعتمد في الشّمال، والذي في حال انفتاح النظام عليه والإقرار به يشكل مدخلا لتطوير الاتفاقات معه ونقلها من الطور العسكري إلى الطّور السياسيّ ما يمثل إسهاما كبيرا في زحزحة الانسداد السياسيّ المُزمن وفتح آفاق حلول ديمقراطية توافقية للمعضلة الوجوديّة السورية على قاعدة بناء نظام لا مركزي تعددي موسّع يراعي الخصوصيات التي يكتنزها الموزاييك السوري .
وخطوة انتشار الجيش على الحدود تندرج في سياق ضرورة قيام الدولة السورية بواجبها في الحفاظ على سيادة الوطن السوري، وصدّ الاحتلال التركي الذي لا يخفي مطامعه في اقتطاع كامل الشمال السوري، ولئن كان واضحا إنّ الضوء الأخضر الروسيّ لأنقرة في عفرين، يستبطن مقايضات في إدلب والغوطة وغيرهما، لكن مقاومة عفرين التي ربّما ليس عدلا نعتها بلينينغراد الثانية بل هي من ستتكنى بها وتتيمن مدن المقاومة من الآن فصاعدا وعجز أنقرة عن استغلال الفرصة الروسيّة وتحطُّم تحركها على الصخرة العفرينية قلبت السّحر على السّاحر .

فالكرد الذين لطالما مارسوا سياسة حاذقة وسط حقول الألغام المحيطة بهم، ومنذ البدء كانوا فاعلا لا منفعلا، ولاعبا مبادرا لا متسمرا متلقيا ولا مرتهنا لمحور إقليمي أو دوليّ ما، بل أصحاب مشروع ديمقراطيّ تطبيقيّ واستراتيجية حل وطني عام وهم إذ رفضوا الطلب الروسي الصريح قبيل بدء الغزو التركي لتسليم عفرين كما سبقت الإشارة أعلاه لكنهم وفي اليوم الأول من الغزو سجلوا الموقف ووضعوا سوريا كدولة أمام مسؤولياتها حيال تعرُّض جزء من البلاد لاحتلال خارجي نيو عثماني لا يخفي أطماعه وحقوقه المزعومة في التراب السوري، ومع مضيهم في مقاومة منقطعة النظير وتكبيدهم الغزاة خسائر فادحة شملت اسقاط مروحيات واعطاب وتدمير عشرات الدبابات والمدرعات، فضلاً عن مئات القتلى في صفوف جنود الاحتلال ومرتزقة الائتلاف تمخضت مفاوضاتهم مع دمشق عن اتفاق عبور وحدات من الجيش السوري إلى مناطق الاشتباك، ما شكّل ضربة معلم فأردوغان الذي يخفي عبثا حربه التوسعيّة الاحتلالية تحت شعار مواجهة الانفصال الكردي ومنع تقسيم سوريا، والهادف إلى تسعير صراع عربي – كردي عبر حديثه عن نيته توطين أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجيء سوري في تركيا في عفرين، كما يقول إنّ استخدم إرهابيي الائتلاف والنصرة في العدوان على عفرين فإن وحدات حماية الشعب باتفاقها مع الجيش السوري خلطت الأوراق وحولت رهانات أنقرة الى هباء منثور، فطالما أنّ مجرم الحرب وقاتل الأطفال –أردوغان- أعلنها حرب إبادة مفتوحة ضدّ الكرد وضد عموم تجربة الشمال السوري الفيدراليّة فإنّ من حق شعوب الشمال ومكوناته كافّة، وليس الكرد فقط الاستعانة بالشيطان حتى لمواجهة هذا العدوان البربري ودحره وإجهاض مراميه الخبيثة فالكرد سوريون في النهاية لا يهدفون إلى الاستقلال عن سورية بل هم قد طوروا وبالتشارك مع العرب والسريان والآشوريين والأرمن … نظاما فيدراليا ديمقراطيا يشكل خارطة حل للأزمة السورية ككل، واستجابة دمشق لدعوة وحدات حماية الشعب بإرسال قطعات من الجيش الى عفرين؛ هو إقرار بشكل ما منها بفيدرالية الشمال وبهياكلها الإدارية والسياسية والعسكرية .
وبلا ريب فالنظام لم يرسل قواته من أجل خضرة عيون عفرين  كونه هو أيضا له حساباته، فهو بذلك يحاول إسباغ شرعيةٍ ما على نفسه فضلاً عن توجسه من المخطط التركي الرامي إلى قضم شمال سوريا ككل بما فيه حلب وما يستتبعه ذلك من تجدد الخطر على النظام من قبل أنقرة وبيادقها في “المعارضة” الطائفية السُّنية وعموما فمقاومة عفرين ماضية قدما حتى دحر الاحتلال التركي ومدى جدية دمشق في المشاركة فيها وفي دعمها ستظهر ما إذا كان الاتفاق آنيا وتكتيكيا، أم أنه سيشكل توطئة لاتفاق سياسيّ شامل يتضمن الاعتراف بفيدرالية الشمال مع ما يترتب عليه من استحقاقات دستورية وقانونية الأمر الذي يشكل رافعة النهوض بعملية التحوُّل الديمقراطي في البلاد الغارقة في أتون الحرب الأهلية والمذهبية وصراعات القوى الإقليميّة والدوليّة فيها وعليها .

نشر هذا المقال في العدد /75/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 1/3/2018

التعليقات مغلقة.