لغة القصة القصيرة جدا وخصوصيتها
اللغة كما هي مفهومة عند الجميع وسيلة لنقل الأفكار والمشاعر، والتعبير عما يجول في النفس، وما يعتمل فيها من حالات إنسانية، وتختلف طريقة التعبير من شخص إلى آخر، فتكون عميقة وقوية ذات دلالات واضحة، وقدرة على الوصول وبلوغ الهدف المراد منها لدى البعض، وتفتقر إلى ذلك لدى الآخر، وتأتي بسيطة ساذجة، مبهمة، عاجزة عن الإبلاغ، والتواصل مع الآخر، ونقل الفكرة بشكل مناسب.
وفي جميع الأحوال، تبقى اللغة في شكلها هذا حالة استعمال حياتي فقط، ولا تخضع للنقد، ولا توضع تحت المجهر لفحصها، وتبيان قوتها وقيمتها، وطريقة أدائها المطلوب، أما حين يصبح استعمالها خاصة في مجال محدد، كالشعر والرواية والقصة والمسرح، أو أي نوع، وجنس أدبي آخر، فإنها تخضع للضبط، وتحتاج إلى خصوصية معينة تتحلى بها، وتتميز بها عن غيرها.
فاللغة في القصة القصيرة جدا لها حالة متفردة، وتحتاج إلى العمل عليها من قبل الكاتب، حتى يطور من إمكاناته، وقدراته اللغوية، ويشحنها بطاقات تعبيرية عالية؛ لتصبح أسلوباً لديه، وسمة خاصة به، وطابعا مميزا، تدل على صاحبها، لأن الأسلوب هو الكاتب نفسه، واللغة هي أداه الأسلوب، وسيلته في التعبير.
فلابد إذاً أن تقترب اللغة في القصة القصيرة جدا من الشعرية، معتمدة في ذلك على تصوير دقيق، وقوة في التحكم بها، من إبداع للمعاني، واستعمال الانزياحات اللغوية، والاتكاء على التشبيه والكناية والاستعارة، ليتماهى الشكل مع المضمون في القصة في كل واحد، لا يفترقان عن بعضهما، ويسهمان في إيصال الفكرة، والإبداع فيها.
ويعول كثيرا على اللغة في القصة القصيرة جداً، ويفترض ذلك تسخيراً لإمكاناتها، وهذا بالضبط يدفع الكاتب إلى ضرورة التأني الشديد، والحرص في التعامل مع المفردة، والجملة والتركيب، والحرص على خلق لغة خاصة، وابتكارها بما يلائم هذا الأدب الجديد، باعتبار أن القصة القصيرة جداً جديدة، ووليدة النشأة، ويتطلب أيضا معرفة أسرار اللغة، من حيث الحذف، التقديم، التأخير، وإمكانيات الفعل والاسم، والأسلوب الإنشائي والخبري، وهذا كله، يدفع إلى ضرورة تواشج هذه الأشياء مع الاستعمال المميز للضمائر، سواء أكان بتغييرها وتبديلها، أو التناوب بينها، مع ما تضفيه هذه العملية من حيوية، ودينامية على النص، والاستفادة من التكثيف الموحي، الذي يعد أحد أعمدتها.
فاللغة هنا ليست ناقلة للحدث، بقدر ما هي لغة بناء للحدث ولعناصره، وموحية ومعبرة عنه توحي أكثر ما تقول. وهذ لا يعني بالطبع تحويل تلك الحالة الشعرية، او الاستفادة من الشعر في بنائها الاعتماد على الإبهام والغموض، بقدر ما يساهم الاعتماد على الشاعرية إلى منح النص قوة وترابطاً أكثر، واقتصاداً في المعاني والدخول في تفاصيل لا تناسب بناء القصة القصيرة جداً.
* روائي كردي من سوريا
نشرت هذه المادة في العدد /74/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/2/2018
التعليقات مغلقة.