بروين…!
كان يملك سلسلة متراصة من أسنان صفراء ، عفى عليها الزمن. كان إذا ضحك، تظهر كقطعة ذهب مرصعة بياقوت أسود. وجهه نحيف لدجة أن عظمتا وجنتيه بارزتان جداً. جبينه كجبين الإنسان البدائي. ملامحه حادة وشفتاه كشفتا الجمل. كان من طبعه، أن يحمل عوداً خشبياً لينظف الفجوات بين أسنانه أملاً في صلاحها. كان يسكن معي في نفس الغرفة. لم يكن يتكلم كثيرا، ولم يكن يضحك، حتى أني نسيت ملامح وجهه الضاحكة. كان كتوما منغلقاْ حاد الطباع.
كان يتجنب النساء والفتيات، فإن شاهد جميلة يدير وجهه ويُشغل نفسه بشيء ما، وتظهر عليه علامات الارتباك والخجل والخوف ، يدرك في قراره نفسه أن الله خلقه هكذا لحكمة ما لا يعلمها إلا هو.
ذات نهار كنت جالساً معه في مقهى صغير على حافة نهر يمر من قريتنا الصغيرة. وبدأنا لتونا نتجاذب أطراف الحديث عن السياسة ومآلاتها وأحوال الناس إلى أن اقتربت فتاة من طاولتنا مبتسمة، فأخبرته بقدومها من بعيد وبدأ بالارتباك، فوضع كلمات في جملة لا علاقه لها بالموضوع وتملكته رجفة وحاول المستحيل ليتمالك نفسه الهزيلة الضعيفة.
رمت الوقت علينا وفي محياها سلام وهدوء، فرددت السلام عليها، وهو يحاول إيصال فنجان القهوة لفمه. قالت: هل بالإمكان أن أجلس معكما فلدي حديث أريد أن أفصح به? وافقتُ فجلست. عينا صديقي لم ترتفعا عن الطاولة أبدا، إذن لم يتعود أبداً أن يُجالس الفتيات. قالت وهي ترتب سترتها وشعرها الذهبي وهي تنظر لصديقي: دائما ما أراقبك وأنت تجلس لوحدك وأصبح لديّ فضول كثير أن أتعرف عليك، هل بالإمكان? كان الخجل قد تمكّن منه لدرجة أن لسانه رُبط، تعرّق وتغيرت ألوان بشرته وحاول جاهداً التكلم دون أن تظهر أسنانه وقال: أهلا وسهلا، ونظر إلي نظرة خاطفة ليرتاح بوجودي معه. فقلت للفتاة في عجلة: سأترككم لوحدكم وأذهب فلديّ أشغال أنهيها وقمت ووقفت. أمسك بيدي وعصرها حتى توقف الدم فيها وتوسّلني بعينين غارقتين بجمجمته ألا أغادر المكان. استأذنت وغادرت.
مساءً عاد للغرفة كفراشة ربيع تحط من وردة لوردة، يتراقص ماشياً فيرمي الابتسامة ويتكلم بصوت خافت وتعتريه سعادة لم ألاحظها عليه أبدا. جهز فنجانين من القهوة و راح يقول أن الفتاه معجبة به وتريد الغوص في حياته. وبين الفينة والاخرى يردد: كم كانت جميلة!
بات يسرد كل تفاصيل جلسته، حتى أنه بات يكررها دون علم. صار وهو يصف جمالها يمسك بيدي . كيف لفتاة في جلسة واحده أن تحوّل وحشاً لحمل وديع? هنّ كذلك، بإمكان الفتاة أن تغير قواعد أي رجل، أي رجل وأن تحوّله لكائن يمتلأ حبا وحنانا في لحظات معدودات.
صبيحة اليوم التالي استيقظت على أغنية فيروز “حبيتك بالصيف” في الراديو وهو يهم بحلاقة ذقنه والابتسام مع وجهه النحيف أمام المرآة. قرر الذهاب لطبيب أسنان لتبييض أسنانه ووضع “كريم” على يديه، حيث استهلك علبة كاملة لشدة جفاف بشرته كالصحراء. تتالت الأيام والشهور وتحول صاحبي لمضرب مثلٍ في التغيير. تزوج من الفتاه نفسها.
بعد عام بعث لي برسالة كاتباً:
صديقي العزيز، كنت ذات يوم منهاراً، فاقداً لبهجة الحياة. أتكور على نفسي وأنطفئ رويدا رويدا كشمعة في نهاية عمرها. لم أكن أشعر بأقراني من الشباب ولم أشعر بكياني المحطم يوما. كنت أقف لساعات طويلة على حافة النهر أراقب العشاق وهم يتراكضون سعداء فرحين. كنت وحيدا مع نفسي، أكلمها فتكلمني فأغدو بائسا فارغاً من الحياة ومن جمالها. منظري قبيح، خلقني الله هكذا، جعلني مختلفاً عن باقي البشر الذين عرفوا جيداً كيف يصنعون مني وحشا يوما بعد يوم بنظراتهم وتمتماتهم وضحكاتهم الخبيثة عليّ. إلى أن انتشلتني زوجتي من الجحيم الذي كنت فيه، إلى أن دخلت حياتي وفتحت لي أبواب الحياة على مصراعيها. صديقي، بعض النساء ملائكة، يغدقون عليك بالعطف والحنان والحب والمودة، لم أكن لأتصور يوماً، أن أضع رأسي على كتف امرأة وهي تلعب بشعري فتحولني لطفل صغير.
شكرا لك لأنك تحملتني، وشكرا لبروين زوجتي التي أعادتني للحياة بعد موت طويل.
نشرت هذه المادة في العدد /72/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/1/2018
التعليقات مغلقة.