اشرب جايك لا يبرد
طه خليل
أفرزت الثورة السورية الموقرة الكثير من الأشياء والكثير من المفردات والمصطلحات، فقبل تلك الثورة لم نكن نسمع كثيرا بالألوية والفرق والكتائب، والتجمعات، والتنسيقيات، والشورى وداعش، والنصرة، والمرتزقة، والخلافة، والسنة والعلويين، والكرد الملاحدة، والسبايا، وقاسم سليماني، وإذاعات الـ ف م وكذلك ومخرجات، منصات (غير منصات اطلاق الصواريخ ) سلال، استانا، سوتشي، حميم الخ.
ومما ظهر على السطح وتمدد كثيرا وانتشر كالنار في هشيم البشر المتعبين هي القنوات التلفزيونية الفضائية والإذاعات المحلية، وبالطبع هذه الوسائل الإعلامية تحتاج الى صحفيين ليعملوا بها أو لها، أو عليها، وتدفقت مجموعات كثيرة من الشباب والشابات، فأطال الشباب ذقونهم وشعورهم، وعلقوا محفظات على أكتافهم وكاميرات تدلت في أعناقهم وصاروا صحفيين، وكذلك شابات فشلت معظمهن في الدراسة والحياة، فتفنن في المفاتن وانخرطن ” خرطاً ” في الحقول الإعلامية ولم يكن يحتجن علوما في فنون الصحافة والاعلام، كان يكفيها أن تتفق مع مصور أعراس سابقاً ليرافقها في جولاتها الاعلامية، فتغطي أخبار الحرب على داعش، وبالمرة تأخذ العديد من الصور الخلابة وهي ترتدي درعا واقيا من الرصاص على صدرها الميمون وخوذة على الرأس.
وبحكم عملي في قناة تلفزيونية، فكثيرا ما كنت أتعرض لسؤال من اشخاص في الطريق أو من الجيران، إن كان بمقدوري أن أتوسط لدى إدارة تلفزيوننا ليعمل ابنه أو ابنته مذيعا أو مذيعة عندنا، وكنت أسأل عن مؤهلات الولد المصون فيرد : ” والله هو درس للصف السابع ولكن وقتها لم تكن في قريتنا إعدادية، فاضطر أن يترك المدرسة ويعمل عند جارنا في محل الكهربا، وهو سيعجبكم أكيد، فهو خلوق ويسمع الكلمة .”
هكذا بكل بساطة يقدم لنا ابنه ليكون مذيعا، أو ابنته التي رسبت ثلاث مرات في شهادة الاعدادية لتكون مقدمة برامج سياسية أو وثائقية، ولأن سوريا صارت مسرحا للأحداث والحرب الاكثر عبثية وشراسة وتهديما للمدن فان وسائل الإعلام راحت تبحث عن مراسلين ومراسلات لتغطية الأحداث، وكذلك ظهرت في روج آفايي كردستان مراسلات كالفطر لقنوات عربية محلية وخارجية، تنقلن الأحداث والتقارير بمرافقة مصور الأعراس ذاك، وتقوم بعد ذلك الواحدة منهن بنشر تحفتها الفنية على صفحتها في الفيس بوك، متأملة أن يكون تقريرها مثالا لكليات الإعلام في كامبريدج ليتدرب على سويته الطلاب، إحداهن جاءت يوما تبحث عن وظيفة إدارية في تلفزيوننا، وكلفت يومها بان أقيمها، فجلست معها ما يقرب من النصف ساعة، وسألتها: ” ما الذي دفعها لتعمل عندنا .” فقالت بصراحة أنا أحب الإعلام وأريد أن أكون مذيعة، فقلت لحالي أعمل عدة أشهر كعاملة إدارية، ومن ثم انتقل الى الحقل الإعلامي مذيعة أو مراسلة.”
فسألتها على سبيل الدعابة : ” ما رأيك بديمستورا.” فنظرت إلي مستغربة، فرسمت على ملامحي الجدّ، فأجابت : ” ديمستورا هي كلمة انكليزية تعني ديمقراطية.” أليس كذلك.؟ فقلت: صح. وبدأت أسترسل بالأسئلة.” هل تشاهدين برنامج اشرب جايك لا يبرد ” ولم تتردد:” نعم أراه وأتابعه “. وسألت: وماذا عن بوتين.؟ فقالت: ” لا أحب لبسه، طويل وغير عملي.”
في الثمانينات درجت عادة عند بائعي الأقمشة في سوق قامشلي على إطلاق أسماء وجمل طويلة وموحية على أنواع من الأقمشة، وكانت معظم تلك الأسماء تحمل دلالات جنسية، مثل: “اشرب جايك لا يبرد” أو ” فوت وسكّر الباب ” وكذلك ” أگعد أسولفلك ” وأخطر الاسماء كان وقتها: ” مد ايدك عيوني “، فتصورا امرأة تدخل عند البائع الشاب لتقول له: ” من فضلك أريد ثلاثة امتار ومد ايدك عيوني.” فيرد عليها البائع : ” اگعدي أسولفلك.. واشربي جايك لا يبرد.”
المراسلة أم ” بوتين ” سمعت فيما سمعته أنها صارت مراسلة لإحدى القنوات التلفزيونية وهي موعودة بسبق صحفي: ستحاور أبا بكر البغدادي ان ألقي القبض عليه يوما في الميادين أو الانبار أو براري العشارة.
وكي لا يقال عني أنني اظلم ” زملاء المهنة ” فلاشك هناك أصدقاء وصديقات صحفيين وصحفيات لم يأتوا من كليات إعلام، ولا من معاهد إعلامية إلا انهم تدربوا جيدا، واكتسبوا خبرة وثقافة اعلامية عالية، وكانوا في الجبهات والمعارك، واستشهد بعضهم وبعضهن، وهؤلاء بالطبع أحني قامتي لهم، ولكنني من وحشتي في هذه البلاد الحارة لن أشرب جايي مع المتطفلين حتى لو برد.. ولن أمد يدي لشيء.
نشر هذا المقال في العدد /72/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/1/2018
التعليقات مغلقة.