العبور الى الجسد/ دراسة نظريَّة

64

1 – اختراق ليل النور

أ – مكان الجسد.
William Baziotesللجسد في الفكر الإنساني حضور خالق لإدراك الكائن للمكان والزمان. فالكائن يدرك ذاته وغيره بالجسد. بل إن تصور العوالم الغيبية نفسها لم يحد عن منظومة الجسد. فآلهة الميثولوجيا مثلا اتخذت صورة الجسد البشري وتوارثت سلالاته.
الجسد مكان تناقضات لامنتهى لها. مكان العفة والشهوة، الحجب والسفور، الخطيئة والتوبة، الكمال والنقص، الخطأ والصواب،اللذة والألم، الحرية والعبودية، الأسر والانعتاق، المادة والروح، المتعة والزهد…
في بدئه خلق الجسد كاملا في أحسن صورة، ثم آل إلى نقص فانبثق القبح من جماله. وهذا سبب بحث الكائن الدؤوب عن الجمال لأنه يبحث عن كماله المفقود. خلق الجسد الأول كاملا في الصورة ناقصا في العلم برغباته جاهلا بعواقبها. ووعيه برغباته هو ما أوقعه في الخطيئة. ولذلك يمثل انحرافه الدائم نحو الخطايا انتقاما من الجهل الذي ولد به. الخطايا ليس بمعناها الأخلاقي ولكن بوصفها انتهاكا لأقاصي الرغبات واندفاعا لتلبية هتافات الجسد القصية.
خلق الجسد الأول كامل الصورة ناقص العلم نافرا من التعاليم فائض الوجود. ثم تحول فيضه الوجودي الجسدي إلى جسد جديد هو جسد الأنثى. لم يتعلق الأمر باستخراج نسخة غير مؤثرة على الأصل. بل ببتر في الجسد الذي لم يكن فيضه زائدا عليه. لقد تم إحداث فجوة وفراغ في كينونته. لكن الجزء المقتطع وهو المعلوم عنده، بدا كائنا مجهولا لا يعرف منه إلا مادته التي يتحسس فيها جسده الأصلي ممسكا بالفراغ الضائع فيه ساعيا لاسترجاع كماله بالتوحد بطرفه الآخر. إنه كمال مؤقت وليس أبديا. إدراكه أن المرأة لا تحقق له ديمومة الكمال المفقود، قد يكون بسبب تعميمه صورة الجسد الأنثوي على كينونات كثيرة واقعية وغيبية ومتخيلة واضعا تعاليم للاستفراد بها.
المرأة نفسها كثيرا ما تجد مناسبا أن تتقمص تعاليم الصون بأن تصون جسدها وتحجبه قابلة بالتعاليم التي وضعها الرجل. لكن الرجل وضع تعاليم الصون إما لتأكيد الحيازة والملكية التي بها يثبت دوام وجود الجسد المنذور لردم الهوة القائمة فيه، أو وضعها للحد من اندفاعاته ورغباته لأن ذلك يؤدي في آخر المطاف إلى صراع حول الحيازة.
لكن المرأة في صونها الجسد تنتقم من التبعية للأصل مدافعة عن صورة وجود خاص بها، ولا يسمح لها في كثير من الثقافات الذكورية حتى بالجهر بحبها. ولا ترغم على صيانة الجسد وحده، بل أيضا على صيانة الرغبة والنظر والكلام. ويحدث أن ترضى المرأة بهذا الوضع وتنتظر طويلا إلى أن تتأكد أنها الجسد المناسب لسد فراغ معين في جسد رجل ما. حينئذ تندفع بكامل انخطافاتها لحضنها الأول. الأصل في المرأة أن لا تبيح جسدها للجميع، لأن ذلك يفقدها الاطمئنان على الهوية التي من أجلها وجدت، أي أن ترجع لأصل الجسد، أما حين تختار خلاف ذلك، فبدافع الانتقام من التبعية لذلك الأصل.
أما انصهار الطرفين فهو ما يمنحهما الإحساس باسترداد الذات الأولى وبجوهر الخليقة. غير أن هذا الانصهار لا يحدث في العادة حدوث الكمال الذي وجد من أجله الكائن بل حدوث النقص الذي ظل يلازمه منذ أن ربط جسده بالخطر وخراب العالم، فحوله إلى منطقة محظورة عن البصر مقننة في الاستعمال، مدربة على الحدود.
لا يواجه فعل الجسد وحده بتلك الحدود، بل تواجه بها لغته أيضا. فما أن يقترب الجسد من مناطق الذكورة والأنوثة حتى يصطدم بجدار الصون، فيتحدث بلغته ماعدا في بعض حميميات السر. وقد يجهر بحالاته الحميمة متحديا سلط الوصايا. وليست الأهمية في التحدي في حد ذاته، بل في تحويل الجسد إلى حقل كتابة وتحويل الكتابة إلى حقل جسد. الكتابة بما هي افتراع للبكارة وعطش للبياض وانطلاق للغة وتلبس بالمتخيل. ويكون الشعر في هذه الحالة سكنا مناسبا لرغبات الكائن، إذ يمنحه حميمية البوح والوجدان ويفتحه على مجاهل المعنى والمجاز، فيقول ما تعجز سطحية اللغة عن قوله.
الشعر مقترن عامة بالجسد. يمدحه أو يهجوه، يصف تفاصيله أو حركاته، تعاسته أو سعادته، لذته أو ألمه، وجوده أو غيابه، مادته أو روحه. الأنا نفسه الذي نواجهه كثيرا في الشعر جسد في حد ذاته.
لسنا معنيين على كل حال في هذا السياق بتاريخ الجسد في الشعر، ولا بتجلياته المختلفة. نهتم أساسا بتمثلاته الكبرى في ديوان “سر من رآك”. ثم إن الجسد لا يعنينا هنا سوى باعتباره متأمكنا أو دالا على المكان، ولا نهتم من تأمكنه في هذه الحالة سوى بوصفه تجليا للرؤية العبورية الراسخة في صورة أمجد ناصر عن نفسه وعن المكان. نقصد الرؤية العبورية التي يبدو فيها الكائن منذورا للرحيل الدائم ولقلق مكان يسعى لامتلاكه والانملاك به. فلا يواجه منه سوى بالفقد لأنه ليس مكانه الخاص المحلوم به. فالكائن العبوري في شعرية أمجد ناصر كائن بلا مكان ولا وطن، يحمل زمانه الذاتي والغيري على كتفيه أو في أغواره ماضيا نحو الاغتراب في الترحل والإقامة، وفي الذاكرة والمصير.
في ضوء ذلك نربط بين الجسد والمكان والعبور. إن الجسد يتحول إلى مكان لأنه يختزل كل الأصقاع التي يمر بها الكائن حاملا معه أصداء الماضي. إنه مكان الرغبات وأصل الخلق وهتاف المصائر. يتسع بالرمز فيحتوي الكائنات والأعالي والمغاور والتخوم النائية وشساعة الجغرافيا. إنه أيضا المكان البسيط والحميم الذي يحضن الكائن بالدفء.
إن المكان يتحول أيضا إلى جسد باستعارته للرغبات والأعضاء والحالات، ولأنه في آخر المطاف لا يتحدد إلا بالجسد، بميوله نحوه أو نفوره منه، بألفته معه أو غرابته عنه، بامتلاكه أو افتقاده، بكل القيم التي يسكنها الجسد في صوره.
إن الجسد غير منذور للإقامة إذا كان متصدعا بشقاء وعيه. لأن إقامته تعني موته. وموته يعني ولوجه عبورا جديدا. يعبر الجسد في المكان ويعبر المكان في الجسد. يعبر الجسد نحو الجسد وفيه. يعبر الجسد في الزمان، وتعبر في الجسد الأصداء الغابرة ومصائر الحاضر والمستقبل.
إن الكائن في شعرية أمجد ناصر يعبر نحو الجسد كعبوره في المكان الجغرافي. إنه العبور المتاهي الذي يواجه العالم باليتم فيسترجع فيه الكائن طفولته وربما حيوانيته هائما يقتفي أثر رائحة الجسد المبحوث عنه. يصبح هذا البحث بمثابة طقس جمعي لقطيع من الأجساد، بينما يتحول الجسد المبحوث عنه إلى حالة احتجاب تنيب عن حضورها رائحة ثيابها. بين الرائحة بحسيتها والثياب برمزيتها، والبحث بجمعيته، والاستنشاق بتشبعه، والأشجار بخباياها، والمرأة بحضورها وغيابها، تشكلت لغة العبور في هذا المقطع:

” بين الأشجار شممناك
ركضنا وراء الرائحة
فأوصلتنا إلى ثيابك
مرغنا وجوهنا
واستنشقنا بالمجامع” (ص 59)

تتحول الذات الباحثة أحيانا إلى ما يشبه الكائن النبوي الذي كلما اكتشف كوكبا أو نجما ظنه الخالق. الكائن مثيل له في الجنوح بالمغامرة والعبور باليتم والفقد :

” جنحت إليك بلا دليل
قلت يا بشرى هذه أرضك لاحت”. (ص 99).

إن الكائن منذور للعبور الدائم سواء في حالة بحثه عن الجسد الأنثوي بماديته ورمزيته، أو في حالة مواجهته له. في الحالة الثانية يصبح الجسد مكانا لمهاوي الأعماق والارتطام بأرجائها، بينما الكائن الباحث عن إقامة عارية من الأقنعة يظل غريبا هناك كما في الجغرافيا:

” مركبي جنح في مضيق الشهقات
وطفقت أبحث عن مستقر
ليدي العمياء” ( ص 105)

وسواء أكانت اليد عمياء أم كان الكائن نفسه أعمى، فليست الرؤية البصرية في حالة عبور ظلمات المكان الجسدي هي المصدر الوحيد للمعرفة. لأن الكائن يرى باشراقات حسه ومجامع مادته. إن مفارقات الكائن تنشأ ههنا بالذات. فبقدر انغماسه في المادة يقهر كثافته ويذوب لحد التحول لأنفاس متصاعدة في مرتقيات الجسد. فبصيرورته أنفاسا يستعيد خفته ويلبي هتافات الأعالي بما هي رمز للحرية والقداسة. من التلاشي في المادة تنفتح إذن فجوات العبور للمقدس. وفي مناطق الشبق المثيرة بشكلها ولونها واستجابتها تلمع مصائر العابر وتواريخ أسلافه. غير أن هذا ليس متاحا للكائن إلا إذا كان مدركا أن ذاته منذورة للصيرورة في حالة اختراق دائمة لا ترضى بسطح المكان، بل تنقذف في تيهه ومجاهله.
في ديوان ” سر من رآك” انعطاف لافت للقراءة من جهة انشداد النصوص لموضوع الجسد. الجسد ههنا جامع أحوال وعلاقات، انخطافات الفتن الشبقية، شتات الرغبات، تعارض القيم، تيه المصائر، تصدعات الأزمنة، فقدان الجغرافيا، سراب الامتلاك…
يتأمكن الجسد بكلمات الخصوبة: الندى، الماء، الزيتون، العشب، القطاف، الحقل…وبكلمات المعابر: السفح، الشقوق، الحافة…وبكلمات الشكل: الاستدارة، الخاتم، تكور…وبأفعال الحيز: الأفعى تنزلق في النداوة، الصهباء ترشح من العطفات، القطار يعبر صفين من الأشجار. السهم يشق طائر الأكمة…
لقد تأمكن الجسد بكلمة العبور ذاتها وما تحدد بها ككلمات الوصول والعودة والارتقاء. يبدأ نص “معراج العاشق” بهذا المقطع :

” ولدت بهذا الاسم لتكون لك ذكرى
ترددها أمطار
طويلة
صامتة.
بهذا الاسم ليأتي إليك عابرون
سيماهم من ليلك، على وجوههم
مستوحشين
خاسرين” (ص 53)

نلاحظ بدءا أن المتكلم تعمد إخفاء اسم المخاطبة مع استعمال اسم الإشارة إليه. إن معرفة الاسم خاصة به، بتجربة عبوره وعبور من شاركه المعرفة بالاسم. فالمخاطبة تصبح محجا للعابرين الذين يعرفونها بجوانيتهم ويمتلكونها باللغة. إن الاسم وحده هو ما أضفى الخلود على الجسد ونقله إلى امتداد كوني تتصادى فيه اللغة (الاسم) بالصمت. أما العابرون الآتون عزلا سوى من الخسارة والوحشة، فمنخطفون بالاسم. كأن اللغة هي التي تتصاعد بالنداء على أغوارهم السحيقة في الماضي.
ب – رؤية الليل.
في المقطع السالف ارتباط واضح بين العبور وبين الليل. واللافت للقراءة أن الارتباط المشار إليه لم يحدث في المقطع المذكور وحده، بل في سياقات مختلفة وردت فيها كلمة العبور وما اقترن بها مجاورة لكلمة الليل ومادل على الظلمة. لقد تحولت الكائنات العابرة في المقطع أعلاه إلى كائنات ليلية بامتياز مادامت سيماها من ليلك بادية على وجوهها وكأنها علامة هوية. بلوغ الجسد في هذه الحالة يمثل عبورا بالمكان المظلم إلى مكان جديد ينجذب الكائن إلى سلطته الاسمية. قد يكون المكان الجديد مكان ضوء أو ظلمة أخرى تشهد على خسارات العابرين طوعا أو قسرا طالبين اللجوء إليه مع أنه لاينطوي سوى على ألم:

” نعود إلى يديك لنروي اطلاعهما على الحطام
وغلبتهما على الحب
الذي تلمسين جرحه فيندى”. ( ص 54)

ولننظر في هذه النماذج المتفرقة من الديوان:

– يعبران سياج الوحش.
فيضيئان ظلمة قلبه.
– بأبواقهم عبروا الليل
يلمعون بزيت المهن
– تتبعه النيازك
عبر قبورا بيضاء.
– يرمي حطبا في جوف الليل
ويعطي العابر أوصافا.
– سيمرون على أنفاسي يقظانة في المعابر.
أنا الذي أعطي الغرباء كلمة ليفتحوا قلب الليل.

لاشك أن القراءة لا تخطئ في ملاحظة العلاقة بين العبور وبين الليل والضوء. فالعبور يمثل هوية وجودية يتغلب بها الكائن على الظلام. بالعبور تضاء ظلمة الليل ويوصف جوفه ويفتح قلبه، وبالضوء يتم إخضاع الوحش وتخترق الظلمة وبياض القبر.
للغة فعل في هذا العبور لإنها هنا كلام الواصل بمعنى صوفي جديد. الواصل الذي ارتقى في أحوال الجسد حتى غدا أنفاسا. الكائن الواصل الذي يسهر على إنارة جوف الليل لأجل رؤية ما يعجز الآخرون عن رؤيته، فيصبح مرشدا لهم بالوصف ليعرفوا ما مور به الأعماق المظلمة. وبالقوة التي يودعها في سحر الكلام يتمكن الغرباء من اقتحام جسد الظلمة.
إن الحطب الذي يلقى في جوف الليل، ليس رمز أيروسيا فحسب، بل أيضا رمزا تطهير وعنصر وجود. إنه مأوى لضوء المقدس ونار المدنس. لكن ليل الجسد حاجب لرؤية البصر، حتى أن فعل الرؤية يصبح في حد ذاته اختبارا للبداهة. فمن أقوال الكائن الشعري :

” أرينيه ناهضا من نومه
مغمورا بالوعود
على غرته ندى
وفي أقراطه رمان.
أريد
أن أراه
خارجا من خدره
جاذبا إليه.
ريق الصباح” (ص 50)

ما موضوع الرؤية؟ ههنا احتمالات، واحد منها قد يكون هو جسد المتكلم في حضور الجسد الأنثوي، وآخر منها قد يكون جسد الأنثى. يؤشر الاحتمال الأول إلى أن يقظة جسد الكائن وهي علامة وجود بالنسبة له، تظل محتجبة كامنة ما لم يعبر إليها الجسد الأنثوي. فبعبوره إليها يدرك الكائن المتكلم، طالب الرؤية، أن وجود الجسد في هذا الاحتمال متوقف على الآخر بوصفه خارق حجب وكمون، باعث حياة وحركة وإخصاب.
ويؤشر الاحتمال الثاني إلى أن الكائن المتكلم مندفع للاكتمال برؤية الغامض المحتجب، المتستر الخصيب، الممتنع الذي يجر إليه بدء الحياة وطفولة النهار والضوء. وربما احتمل المقطع السالف وقوع الرؤية على موضوعي الجسد الذكوري والأنثوي في حركتين تقع كل واحدة مفعولة بإرادة الرؤية. فالرؤية الأولى تخرج الجسد من النوم، وتخرج الثانية الجسد من الخدر. فالنوم والخدر فضاءان لتكون الجسد واحتجابه. أما الرؤية فتخرق ليل هذين الفضاءين ناقلة الجسد إلى المرئي الفاعل بالتواصل المادي.
الإلحاح على الرؤية يمثل تحديا للمحظور، فعلا في الظاهر لا الباطن، تحديا للعمى الذي جعلته الوصايا يصيب من يتجرأ على النظر في المفاتن، وتحديا للعين التي اعتبرت زانية كي تحجب عن الرائي إحساسه بالخوف الفادح من الجسد.
للعين حضور بارز في خلق صور المتخيل، حتى أن النصوص تتحول إلى مشاهد حركية مفعمة بالتفاصيل الصغيرة والألوان. إن عنوان الديوان ذاته يؤكد مركزية النظر في شعرية هذه النصوص. إذ أن رؤية الأنثى سواء أكانت مادية أو رمزية هو ما يبعث السرور في الرائي. السرور بوصفه لذة وافتتانا يتحققان بالتواصل البصري والتشبع بجماليات المرئي واندفاع الرغبات الخبيئة نحوه. أما الإحالة الواقعية التي يتضمنها العنوان فتؤكد ما رمناه. لأن المدينة العراقية التي حملت اسم ” سر من رأى”، وصفت بذلك لجمال معمارها وحدائقها. ما حدث في شعرية أمجد ناصر هو نقل المرئي من المكان التاريخي الواقعي إلى المكان الجسدي بآنيته وتاريخه معا. وهو أيضا تعيين المجهول في عنوان المدينة إلى المعلوم في عنوان الديوان.
الفرق بين رائي ” سر من رأى” ورائي ” سر من رآك”، أن فتنة الأول فتنة بصر يظل فيها الرائي منفصلا عن المرئي ولا يملك منه سوى الصورة. إن المدينة ليست ملكه، بل ملكا للخليفة العباسي. أما الرائي فليس له سوى التشبع بصورة الجمال الفائض عن فعل الآخر لا عن فعله هو.
أما رائي ” سر من رآك” فليس صائد صور أو عابرا بالعين. بل عابرا بالجسد. فليس يرى الأشكال والألوان والحدائق منفصلة عنه، بل يراها في حيازتها والالتحام بها وعبورها في وجودها. ليست الرؤية إشباعا منفصلا عن المرئي، بل تحريرا لرغبات متزاحمة وجعلها تندفع نحو خرائط الجسد وأسراره. وفي المقطع السالف عبرت الرؤية عن إرادة ظهور المنحجب ودفع مكانيته للارتواء بالزمان. ونقرأ من نص ” معراج العاشق”:

” سر من رآك
من وضع يدا على صابونة الركبة
من غط إصبعا في السرة
واشتم سرا
سر من أسدل مرفقا
على ضمور الأيطل
من شارف النبع وشاف” ( ص 63)

يتأسس هذا المقطع بواسطة العلاقة بين الكل والجزء. فالكل يدرك بالرؤية والجزء يدرك بمتوالية من الأفعال ذات المرجع الحسي. أما السرور فلا يتحقق سوى بالحيازة والامتلاك، سواء في ذلك الحيازة بالعين، أو الحيازة بالمرفق. إن الرائي لا يكتفي بالصورة وإنما يتعداها أيضا إلى الفعل في الجسد. فليس الجسد كالمدينة. لأن علاقة الرائي بالجسد علاقة تداخل، فهو يحوله إلى موضوع خاص به يخترقه نحو مجاهله.
وإذا كان مكان الجسد كمكان المدينة من حيث كونه مكان حدائق أيضا، فإن رائي الجسد بخلاف رائي ” سر من رأى” يرى ما لا يرى، يرى في المجاهل والعتمات. إنه الرائي الأعمى أيضا، ولص أعالي الصيف الذي يتحدى الحراس، مستجيبا لنداء الجسد الذي تبذخ حدائقه واهبة ثمارها للأعمى( ص117).
إن الرائي قد يتعدى رؤية البصر إلى أشكال أخرى من الرؤية الحسية كالرؤية بالرائحة التي يتغلب بها الكائن على العمى:” كأننا عمي نراك بالرائحة”(ص 56). بل أن العمى حين يتعلق باليد العمياء (ص 105) يصبح مقوم فحولة تائهة في أوج مجدها وتطلعها. فالذكورة تتحول استعاريا إلى يد، وتتحول اليد بدورها استعاريا إلى عين، ثم يتشاكلان في العمى بوصفه حجابا، يخترقه الجسد بحواسه المختلفة. فالعين البيضاء من الفرح (ص 56) عمياء أيضا بسبب اللذة.
إن بياض الجسد يصبح مركزا لإدراك الكائنات والأشياء، حيث يتحول السواد نفسه إلى بياض: ” أبيض هذا الليل بقلب أسود”. (ص 29) فالسواد ينغرس في صلب الظلام فيتحول الليل إلى بياض كما لو أنه يتصدع بهذا الاختراق الذي يحدث في أغواره. البياض يقهر الليل لأنه ضوء شبيه بنار الحطب التي يلقيها الكائن في جوف الليل (ص 98).
البياض بصيرة أيروسية تنقلب بواسطتها معادلات العبور الجسدي من النور إلى الظلمة. تغدو معادلات لمعابر تنمحي فيها الحدود بين البياض والسواد. فبياض نور الرؤية يصبح سوادا. وسواد الفتنة الأنثوية يصبح بياضا. كذلك يتولد البياض من سواد الذكورة. ومن ليل الأنوثة :” المرأة تنشر أبيضها” (ص 27).
ومن بصيرة الأيروتيكا تتصاعد الفجائع بارتجاجاتها التي تجعلها منفلقة بالمفارقات. هكذا تواجهنا في لغة أمجد ناصر لغة لجسد البياض بدلالات متصارعة : بياض الفرح، بياض القبر، بياض الكفن، بياض الليل، بياض الزبد، بياض الموت، بياض الاستدارة، بياض الغيم الممطر، بياض الندم والنوم، بياض الطاعة، بياض الضراعة، بياض الرائحة…الخ
وبقدر ما يمثل البياض المحو والعدم وارتفاع الحواجز واختراق الحدود، فإن العبور به أو إليه يتأسس في شكل حركة صدامية تبدو فيها العلاقة بالجسد علاقة عنيفة شبيهة بمخاض ترتج فيه أطراف الكون وهي تتحد ببعضها في فعل صهر وانصهار:

” الاحتضان هاصر
مطقطق العظام
باعث الحشرجات من الرميم
الشد والجذب يتحدان في ضمغ الهبوب
تلتمعين بالدفقات
ماء
يضيء
الوجه
الآخر
لليل” ( ص 110 – 111)

إن الانشداد للجسد بكل عنفه واندفاعه مصدر بعث يتولد في أغواره الماء الأول، ماء الوجود وماء الضوء الذي يجعل الكائن يعبر نحو نور ليس مفارقا للظلام، إذ النور والظلام ثنائية لجسد كوني واحد.
2 – فتنة الأعالي والأغوار
أ – منعة الأعالي
تخلق شعرية أمجد ناصر متخيلا للمكان والجسد من خلال صورة الحاجز والمنعة. فيصبح فعل العبور فعل مواجهة واختراق حاجز ما يحد من رغبة الكائن في الانجراف الأقصى نحو رهبة الجسد. وفي الديوان عبارات عديدة تشكل هذه الصورة منها: الأشقر المحروس، الوحش الهائج، تحرس الحبق، ممتنع ومزدجر، سياج الوحش، أسد نائم، محروس بوحش، أطناب المنعة…إلخ. هكذا تمثل قيم المنعة تحديا تختبر به الذات نقصانها وكمال انجرافها موحدة بين لذة الجسد وألمه معتصرة ذاتها لاختراق حاجز الضيق لما في اختراقه من عبور للمكان الفسيح. مكان الأعالي والمرتقيات حتى لو كان الصعود إليها محملا بالآلام:

” أدخليني مدخل ضيق
لنصعد بالألم
ليس هينا دخول الملك من استدارة الخاتم”. ( ص 100 – 101)

إن متخيل المنعة لا يعبر عنه بصورة المكان المحروس وحده، بل أيضا بصورة المكان العالي وصورة المكان الدائري بوصف الدائرة مدخلا لمكان مجهول. وبذلك تتقاطع في فعل العبور حركتان تمارس بهما الذات تحررها وتغلبها على الحاجز، هما حركة العبور الارتقائي الارتفاعي، وحركة العبور الأغواري المغاري. وفي تداخل الحركتين ما يؤكد تحول الجسد إلى مكان تنمحي فيه الأبعاد والحدود كلما بلغ فيه الكائن أقصى حالات التلاشي.
إن صورة الكائن العابر بالخفة التي تشكلت في أعمال أخرى للشاعر كما في “مرتقى الأنفاس”، تتشكل في هذا الديوان أيضا بما يؤشر إلى حالات الفقد وحتمية العبور وخاصة أن الكائن يجابه مصيره وحيدا.

” لا أخ لي بين الحرس ليرمي علي وشاحه فأمر
ولا أب في مجلس المتنفذين
شفاعتي في الخفة” (ص 119)

تجد خفة العبور مكانها الفسيح في الارتفاع. لأنها خفة في الأعالي وفي الانشداد إليها، أعالي الأماكن وأعالي الأشياء والكائنات، أعالي الأنفاس والأحلام التي تقبل وحدها أن تنبصم بأثر العابر خلسة ضدا عن أي مراقبة ومنع:

” الطالع
خفيفا
إلى السهو
التارك خيطا من القمح على أديم النوم
أنى لهم أن يدركوا طرقي إلى المعرى في الريش،
مزيجا بدم الشفتين” (ص 117).

إن علاقة الكائن بمكان الارتفاع في شعرية أمجد ناصر، تغلب عليها الرغبة في تخطي حدود وموانع المكان الأرضي بمرجعياته الثقافية والسياسية. ولذلك لا يمثل العلو ملجأ للكائن بل معبرا للتحدي والخلاص واختبار الوجود في صيرورته إلى ترحال دائم. إنه علو للحس لا للغيب. وحتى حين يتحول الكائن إلى أنفاس متصاعدة في المعارج أو في التواريخ، فإنه يظل مشدودا إلى عالمه الأرضي لا السماوي الغيبي.
وفي ديوان ” سر من رآك” تتشكل لغة الأعالي في سياقات عديدة ممهورة بدلالات الخفة، كخفة الضوء واللغة والهواء:

العبور إلى الجسد

– الضوء يرفعنا درجات (ص 62).
– مرتفعون في لغاتنا (ص 62)
– مرتفع الهواء ( ص 12).

وسواء أدلت الأعالي على المكان الواقعي، أو الرمزي، أو الجسدي فإنها تقترن كثيرا بدلالة المنعة، كما هو الأمر في المقطع السالف، حيث يبدو فيه الكائن بمثابة لص ل ” أعالي الصيف” يتسلل متحديا المنعة نحو حدائق المخاطبة، طالعا خفيفا إلى السهو.
نقرأ عن أعالي المكان الجسدي:

” وردة الدانتيل السوداء
” في أعالي الفخذ
قبلة الملك السعيد في الليلة الألف
حيث تنزلق الأفعى المرقطة في النداوة
لتحرس الحبق” ( ص 47)

تمثل وردة الدانتيل في هذا المقطع صورة رمزية لليل الأنوثة ذي المنعة الملكية الرابض على حافة القتل. وتمثل الأفعى صورة رمزية للذكورة بما تنطوي عليه من خطر ونزعة دفينة للتسبب في الموت. بهذا تتشكل للأعالي صورة المنعة القاتلة.
تتقلب في لغة الديوان بعض الدلالات التي ارتبطت بمحكي الخليقة الأولى. فالأفعى مثلا لم تعد رمزا للخطيئة الأولى، كما لم تعد أيضا رمزا للغدر الأنوثي كما في المحكي الشعبي، بل تحولت إلى أيقونة ذكورية دالة على الخصوبة وحركة التواصل الحسي بالجسد الأنثوي مستعارا في صورة عين:

” الأفعوان يتلوى في الزخم
العين الكبيرة تحدق” ( ص 34)

الأفعى مرقطة في النداوة، والأفعى التي لها عنب لا يقطفه الكائن إلا إذا ارتفع فوق غيره درجات (ص 109)، هي في الحالين أفعى الخصوبة والفاكهة التي يندفع الكائن إلى جنيها متحديا الخطر الذي وسمه بها محكي الخليقة الأولى. إنه قلب لمعادلة المقدس والمدنس. المقدس الجاذب للأعالي، والمدنس المسقط منها. بل إن الكائن يخرق مواضعات المقدس الصوفي حين يتلبس بصورة الواصل الذي بدل أن يترقى في أحواله الروحانية، يترقى في أحوال الجسد. الواصل هنا في حاجة إلى فعل صعود وارتقاء، ليس إلى علو القداسة وحدها، بل إلى حيث يتوحد المقدس بالمدنس:

” أنظر إليك في أطناب المنعة
حيلتي لاشيء أمام سحر الواصلين
على أطراف أصابعهم إلى أعالي الخدر” ( ص 87).

إن الخدر رمز للاحتجاب والتخفي الأنوثي. أما الظهور فرمز للصيرورة في حقيقة الوجود البراني. وبالخدر يصبح الجسد مكانا غائرا. وبتصوره في الأعالي يتولد شرخ بين مكان الارتفاع ومكان المهاوي. وهو في الحالين مكان منيع وغامض، العبور إليه عبور في العتمات والأغوار.
وتتجلى حركة العبور الأغواري بدءا من طبوغرافية المكان الدائري. فالدائرة عتبة ومعبر يحيلان في الديوان على الضيق أحيانا وعلى نداء الاختراق أحيانا أخرى. اختراق الدائرة بما هي معبر للكهوف المنيعة والمغارات المظلمة والأغوار التي تتصاعد من تخومها أصداء الأزل، حيث تتوارى جوهرة الأصل، أصل الصرخة وأصل المنبع.
لقد تقلبت هذه الصورة في الديوان باستدعائه لدوال الاستدارة ودوال أخرى تفيد المعابر الأغوارية الضيقة وهي تواجه الكائن قبل أن تهبه نداءاتها وتسلمه لمهاويها. ومن تلك الدوال : الشقوق، أشق، الأعماق، جوف، مدخل، ضيق، مضايق، مضيق، السرة، التكور، استدارة الخاتم، خاتم العشب، الاستدارة، المستدير…الخ.
الاستدارة هي إذن استدارة العين المحدقة، والشقوق، والقميص، والكوى والثقوب الراشحة بمياه منابعها السحيقة التي تسعى إليها حية اللسان (ص16) وتنزلق فيها أفعى المياه، ويتلوى فيها الأفعوان، وتهيم فيها اليد العمياء. إنها عتبات الكائن نحو الحرية المطلقة، الحرية من أقنعة المتخيل، ووصايا الخوف والحذر، ومشانق اللغة، وخرس الجسد. وهي أيضا الحرية المنيعة المحروسة بوحوشها وليلها الذي لا يقوى على اختراقه سوى كائن تعرى من ثقل مادته وتحول إلى أنفاس مضيئة للعتمات عارفة بأحوالها فانية في غيابها.
إن الافتتان بالأعالي في منعتها، كالافتتان بالمغاور في منعتها أيضا. منعة المغارات والكهوف والمضايق التي تستفحل فيها الظلمة والوحوش…إذ تطالعنا في الديوان هذه الكائنات الحيوانية المتوحشة حارسة للمضايق والمداخل والمتاهات:

” ذو الغرة
يتصوح برائحة أسد نائم
مهيأ للأخذ
ممتنع ومزدجر” ( ص 64)

ب – حدوس الأغوار
لماذا اقترن الجسد في المتخيل بصورة المغارات والكهوف؟ إن الأمر لا يتعلق بتصور ساذج للتكامل العضوي بين جنسي الجسد، بل باكتشاف المثيل. إن الكهف المتصور في جسد الأنثى ليس سوى نداء للهوة التي ظلت متفاقمة في جسد الرجل منذ أن تخيل اقتطاع المرأة من جسده. هكذا يكون انجرافه نحو كهوف الأنثى انجرافا نحو الكهوف الغائرة في أقاصي وجوده الأول. إنه الوعد الذي لا يتحقق في متخيل الديوان إلا بالتلاشي الأبدي للكائن في صورة رائحة أو أنفاس أو غيبوبة.
يسعى الكائن للذوبان الكلي في كهوف ومغارات متخيله، لعله يلاشي هاويته في هاوية الجسد، لكنه لا يبلغ ذلك مادام الوجود ذاته قائما في مكان كهفي مغاري. لقد تخيل الإنسان في طفولة تاريخه أن السماء والأرض جسدان تزاوجا في زمن ما، ونحن إنما نحيا افتراقها ولا نبلغ سوى عتبات هذا الكهف اللانهائي الذي يمتد بين جسديهما. إنها الدائرة المطلقة التي تطالعنا في صورة الزواج الكوني : الجسد الذكوري السماوي ينحني برأسه للأرض فيما أشبك أطرافه السفلى بأطرافها، بينما في الوسط، في الدائرة الكونية تعلقت المخلوقات. ولعل في تعلق شعرية أمجد ناصر بمكان الاستدارة تعلقا برحم الكينونة وبأصل الوجود وصورة الخلق الأول.

نقرأ في نص ” وردة الدانتيل السوداء”:

” باللمسة
أحرر المثال من قالبه
وعلى ضوء المياه الشفيفة
أصل
إلى
أصل
الصرخة
حر وطليق السارح في الظلمة
يحتمي بتكوره ويثقب الرائين ببرعم قاتم
ثمل بالصهباء
التي ترشح من عطفاته” (43-44).

يغور الجسد في عمقه الخصيب، أما الكائن فلا يرضى بالجسد القالب، بل يسعى للجسد المثال والأصل. لأن فعله في التحرير مزدوج، يحرر مثاله من قالبه مثلما يحرر مثال العبور من قالبه. بالحرية يتلاشى الكائن في الجسد إلى أن يبلغ الصرخة الأولى. أي الصرخة الأصل لا صرخة اللحظة العابرة. إنها الصرخة التي تصدع بها الكون فكان وجودا.
إن الكائن إذ يحرر المثال من قالبه، فليس لأجل امتلاكه. فهذا الكائن ليس مالكا لشيء وهو العابر خفيفا، المنذور للفقد والترحال. امتلاكه للجسد يعني تقويضه لمصيره الآيل لهجرة وتنقل واختراق دائم.
يمثل تحرير الجسد وسيلة لاستعادة الجذور الأولى للكائن والكون. أما امتلاكه فأسر وتقيد له. إن الجسد المتحرر من القالب، هو المثال المنبع المنحجب السارح في ظلمته متكورا على نفسه كما الجنين في الرحم أو كما مجاسدة السماء للأرض. وهو في حريته المنيعة يمثل هتافا يعطي معنى لوجود الكائن واندفاعه وبحثه.
هناك فرق بين التحرير لأجل الامتلاك، والتحرير لأجل الانملاك. فبدل الامتلاك يسعى الكائن هنا للانملاك بالجسد المثال، الجسد المحرر الذي تتماوج في أغواره الظلمات بالأنوار. الانملاك بالجسد هو العبور اللانهائي نحوه، والعبور السحيق في أغواره وأصقاعه، والارتقاء المتصاعد في معارجه. ففي الانملاك يختبر الكائن وجوده بالانمحاء، ونظره بالعمى، واستقراره بالتيه، وبياضه بالسواد، وغرائزه بالرائحة، وضوءه بالظلام، ويقظته بالسكر، وعطشه بالمياه.
ليس بلوغ الجسد المثال ضربا من اليوتوبيا. إنه حال من أحوال العابر الفرد، العابر الواحد الذي ينخطف بالجسد كما الآخرون وإن اختلف عنهم في أحوال توحده به وعبور معارجه لحد التلاشي. العابر الواصل هو الذي ينتهي إلى حد اللاعودة باختراقه الكثافات الحاجبة للأصل الأول والنبع الذي ينحجب خلف متاهات الليل. ولا يمثل الانغماس في مياه الجسد والوصول به إلى إطلاق صرخة كينونته نهاية العبور. فالكائن إذ يعلن عن أقاصي استسلامه وخضوعه وانملاكه ملقيا مفاتيحه، إنما يلج معابر جديدة كتلك التي يتصاعد فيها مع صرخة الجسد، فلا تكتمل حريته إلا حين يتوحد مصير الجسد الآخر بجسده وينملكان معا بنداء اللاعودة.

” خذي يدي لتصل إلي
وتبلغي ما بلغت
فقد ملت على النبع
ولما ارتشفت
رميت مفتاحي” ( ص 127).

إن لغة الديوان تصوغ تجربة الانتشاء الحسي بما يرافقها من تحقق وفقد، بقاء وزوال، اشتراك وتفرد، انحجاب وظهور، منعة وإدراك، تحيز وإطلاق، تقييد وتحرير…وتتوالى في ذلك الصور الرمزية لأعضاء الجسد الجنسي الذكوري والأنوثي وهي تنعبر ببعضها، حتى كأننا نواجه أحيانا تعبيرا جسديا بالشعر واللغة بدل التعبير الجسدي الميمي.
هناك إلحاح على الاستغراق في الحس، لأن الوجود المادي لجسد الكائن لا يتحدد إلا بالوجود المادي للجسد الآخر. غير أن هذا الاستغراق الحسي لم يوظف لذاته ولا لتأكيد الوظائف البيولوجية للجسد وحدها، بل أيضا للتساؤل عن ماهية وجود الكائن والكشف عن حدوسه التي ترى في الجسد معبرا لإدراك الغامض وبلوغ المخبوء واسترجاع نقاء الذات قبل أن تغلفها الأقنعة.
أليس لهذا السبب يواجه الكائن الشعري في الديوان هتاف حريته بالشم، ووصوله العرفاني للانتشاء بالرائحة، ورؤيته للجسد بالأنف؟ هل معنى ذلك أن عين البصر التي انتقلت في الديوان إلى عين بياض ذكوري تارة، وعين مياه أنوثية تارة أخرى، مصيرها الاندحار أمام تراثها من الخوف؟ أم أنها فاشلة في كشف غموض الجسد، أم أن الرائحة هي ذروة التقاء الحس بالحس واصطكاك الأرواح في تلبسها بالمادة قبل أن تلج حالة من الحضور والغياب المتداخلين؟

3 – الحضور والغياب

أ – خدر الرائحة.
إن حال العاشق هي حال الذات الفردانية التي ترتقي لدرجة الغيبوبة الأبدية بما تعنيه من تخل عن ثقل المادة بالمادة. العابرون الآخرون يحجون لسطوة الجسد خاسرين مستوحشين، يواجهون ليله بكلام غيرهم، فيبلغونه بوساطات اللغة وميثولوجيا الاسم. لكنهم ينتهون إلى نقصان ورجوع لا يحملون معهم سوى آثار زائلة للغيبوبة اللحظية الزائلة لتوها. يقول الكائن الشعري:

” خذي يدي واجلسي لنغيب
فالسدى عيدنا
لا لنا
ولا علينا
بعد رجعتهم إلى تمامهم ناقصين
سوى
أثر العابرين
بين الخشخاش” ( ص 129)

يمثل هذا المقطع نهاية آخر نصوص الديوان. ومن الناحية السردية، يمثل نهاية الرحلة نحو الجسد التي عبرت عنها نصوص سابقة. حيث بدا منها أنها رحلة جمعية تلاحق فيها الكائنات نداءات بعيدة. وقد أفصح عن ذلك بصفة خاصة نص ” معراج العاشق” بتوظيفه ضمير المتكلم الجمعي، ونص ” غريب مكلوم بمنجل العذراء” بتوظيفه ضمير الغائب الجمعي.
ويتبين من نهاية الرحلة الفارق بين علاقة الذات الفردية بالجسد وعلاقة الذات الجمعية به. إن الرائحة مثلا، وهي ما به تشمم الجمع وجود الأنثى بين الأشجار، تمثل دائرة لغوية ودلالية للديوان، فبها ابتدأت أول جملة فيه، وبها انتهت آخر جملة مستعارة في كلمة الخشخاش.
إن كلمة الخشخاش تجسد فارقا في الدلالة بين فعل العابر الواصل الكامل، وفعل العابر الواصل الناقص. عبور الأول حقيقي وبلا واسطة، عبور غيبوبة دائمة إلى الجسد بوصفه مطهرا ومعراجا يتم اختراق كثافته نحو أقاصيه لحد التيه. أما عبور الآخرين، فناقص لا يبلغ من الجسد سوى صرخة الفرع لا صرخة الأصل، صرخة الجزء لا الصرخة التي تتلاقى في جوهرها الأجساد. العابرون الآخرون يكتفون بذاكرة اللغة والأسماء، مثقلين بكثافتهم ينقلبون خاسرين كما بدأوا، راجعين إلى تمام مادتهم، ناقصين من الغيبوبة المطلقة التي تنهدم فيها الهوة التي يحملونها في ذواتهم، يقنعون بالخدر الزائل لا بالخدر الذي ينقلب فيه الكائن من مادته إلى رائحة وأنفاس.
للرائحة في أعمال أمجد ناصر ذاكرة نصية. وعادة ما نجدها في أعماله السابقة مرتبطة بالماضي المكاني، حيث يمثل ظهورها لحظة تواصل بين ذلك المكان ومكان الحاضر. وفي النص الأول من هذا الديوان، تتشاكل الرائحة أيضا بالماضي من ناحية الدلالة على الذكرى. إذ تبدأ أولى جمل الديوان بقوله :” الرائحة تعود لتذكر” ( ص11). كأنها حالة معينة لعبور الكائن خفيفا نحو الأماكن العابرة، فيسترجعها بأنفاسه ناقلا إياها إلى وضع تجسيد.
إن كلمة الرائحة الموظفة بكثافة في النص الأول من الديوان، قد توهم القراءة السريعة بانحصارها في المجال الأيروسي. لكنها غير منحصرة في ذلك. فنص “الرائحة تذكر” يجعل من الرائحة فاعلية حسية مولدة لشتى التداعيات: رائحة الأعطيات المجهولة، والأسرة، والثياب، والعضلات، ومياه الأصلاب، والأكباش، ورواد الفضاء، والأمطار، وحنطة الحظائر…الخ. وضمن ذلك تتدخل الرائحة أيضا في شكل مرتقى لأنفاس الجسد الواصل فيرى موضوعه بالرائحة ويتقراه بالأنفاس (ص 56).
ويمكن عد الرائحة لحظة ذوبان يعود فيها الكائن إلى أصله، ماحيا الفوارق والحواجز التي تحول بينه وبين اختراق الجسد. بالرائحة يسترجع الكائن أغواره الحيوانية:

” من خيط الرائحة
قادنا أكبر الأكباش طرا
إلى زيح الأنثى” ( ص 88)

وبالرائحة يسترجع أيضا أغواره الأمومية:

” قبلت شيئا بليلا في الظل
شممت فوح طفولتي بين الأكباش” ( ص 128)

وبها يستعيد جسد الأمس:
أقتفي عطر الأمس اللابث
بين الساقين” (ص 92)

كل هذه الاسترجاعات تستجيب لحال الكائن وهو يدرك العالم المرئي وغير المرئي بالرائحة تحديدا، رائحة الماضي والحاضر والآتي. إذ بتلك الرائحة يصل الكائن إلى حال الغيبوبة في الجسد.
لكلمة الرائحة في أول نصوص الديوان فاعلية دلالية تنظم النص وتخلق تصدعات في صورة المكان عبر تعاقب الأزمنة. كأنها تمثل عبورا موازيا لعبور الكائن من طفولته نحو مصير مجهول. هكذا ينقلنا النص بمتخيل الرائحة من الحاضر نحو الماضي في مرحلة أولى ” الرائحة تعود لتذكر”، لينعطف النص نحو الحاضر محملا الرائحة بفاعلية درامية ما أن يحلق فيها الكائن نحو الأعالي حتى يهوي ساقطا على عتبات المكان.

” الرائحة
تصعد
إلى
الخياشيم
اليعسوب
يطير
بين
الأعمدة
ويهوي
على
العتبة” ( ص 15)

تتداخل فاعلية الرائحة بصورة التقطيع السطري لهذا المقطع، الذي اتخذت صورته البصرية شكلا عموديا متماهيا مع مدلول كلمة العمود الموظفة في لغته، ومع حركة تصاعد الرائحة واليعسوب وسقوطه الحاد.
إن الرائحة بقدر ما تمثل في الديوان حالة يقظة للذاكرة، تمثل في سياقات أخرى كثيرة حالة جذب ومغنطة روحية ينجر بواسطتها الكائن إلى رحلة بحث متواصلة. وقد تمثل تلك الرحلة كما في النص أعلاه، حالة إغماء يصيب الكائن بخدر مؤقت يصحو منه ساقطا على عتبة لأنه فشل في اختراقها.
غير أن الكائن الواصل، تصبح الرائحة عنده حالة تحرر من المادة والوصايا والجهل. حالة جديدة لاختبار الوجود الفرداني للذات. وبذلك يغدو الخدر معرفة وارتقاء، بل يقظة جديدة عارية من الأقنعة، يستطيع بها الكائن أن يرى ما لا يراه الآخرون فيصبح دليلهم يهبهم كلمات يفتحون بها جوف الليل، مسترشدين ببوحه عن المجاهل المعتمة.

” الخدر
يحل
عقدة
اللسان” ( ص 107)

الخدر يحرر الكائنات المتزاحمة داخل الذات، بأن يجعلها شفافة ونقية، كائناتها مندفعة نحو حريتها القصوى. كائنات حيوانية (ص 47) وكائنات طفولية :

” قربيه
من الزغب الطالع على المرمر
من طعنة الآس
من تويج زهرة الإغماء
من الذي يعيد الفم إلى طفولته (ص 16)

إن نص ” الرائحة تذكر” وهو يحدث هذا الانعطاف من الماضي نحو الحاضر، ينعطف بعد ذلك لزمن الديمومة، حيث الرائحة حالة خلود متعالية على الأزمنة وأماكنها. إنها “الرائحة ذاتها”، واحدة لا ثانية لها. غير زمنية مستفحلة في الجسد مستوطنة إياه خالدة فيه ( ص 17).
بيد أن هذا المحكي الشعري الذي قدمه النص واختار الرائحة شخصيته الرئيسة، ينتهي بمنعطف أخير ممثل لحكم الذات على المكان. ههنا ينشأ تصدع بين الرغبة وبين موضوعها. فرغبات الكائن في اختراق الجسد تواجه في النهاية بمتاهة الجسد. إنه كأي مكان لا يقبل الإقامة الدائمة، بل يؤول الواصل إليه إلى هجرة وعبور، وتؤول الخصوبة إلى جدب وإمحال. يصبح الجسد صحراء والرغبات فهودا ” تجوس مفازة الهجران” ( ص18). إن درامية هذا المشهد لا تنحصر في الانقلاب الاستعاري للمكان، بل في مواجهة الكائن لمصير الاغتراب وهو الذي تخلى عن كل المواضعات والأحكام التي كان من شأنها أن تحول دون تلاشيه في حميمية أدغال المكان.
ب – عرفانية الجسد.
إن الديوان وهو يوظف بعض المصطلحات والمفاهيم الصوفية، وبعض أساليب التضرع والابتهال الديني، يخضعها للغة الجسد. فالجسد هو المركز الذي تنجذب إليه المرجعيات الصوفية والدينية. لسنا أمام كائن زاهد في الجسد لأجل الارتفاع نحو أنوار السماء، بل أمام كائن يرى أن وجود جسده لا يتحقق إلا بالتلاشي في جسد آخر بما ينطوي عليه من مجاهل وتيه. ولهذا السبب تشاكلت قطبية الأعالي بقطبية الأغوار والأعماق بما أن حركة الاتحاد الوجودي بالآخر ليست حركة صعود فقط بل حركة أفق وغوص أيضا.
هكذا يصبح الجمال المطلق مدركا بالاندفاع المطلق، فيتخفف الكائن من لغة السكر الصوفي لفائدة لغة التخدير الجسدي لقوة عصفه بالقوالب التي تخفي المثال: قنب الهذيان، زهرة الإغماء، زهرة الأفيون، يثملون بالأفيونة، مهاوي القنب، الخشخاش…
كما عززت لغة الديوان مرجعيات متخيل الرائحة بمرجعية حيوانية دائرة بصفة خاصة حول تكرار كلمة كبش لتعدد مدلولاتها. فالرائحة مثير جنسي للكبش ” أكباش يهيجها البول” (ص 12)، ومصدر بحثه عن الأنثى في شكل قطيع (ص88). إن الكبش أيضا رمز للافتداء، ورمز للخوف و الجبن، ثم إنه بقدر ما يرمز للدونية ينطوي أيضا على رمزية وثنية منذ أن صنعت له أصنام وعبدت. وبقدر دونيته وأرضيته، نظر إليه في السماء ممثلا للقمر الإله. وربما تتشكل لنا من تعالقات الكبش والرائحة والقمر والجسد تقاطبات دلالية. نفهما كالآتي :
– الكبش دال على الذكورة التي تنجذب نحو الأنوثة بشكل أعمى، فلا ترى سوى بالرائحة.
– القمر دال على دورة الأنثى بين ميلاد خصوبتها وموتها.

الانجذاب الأول شبقي، والانجذاب الثاني دموي، ويتقاطب الانجذابان في ثنائية اللذة والألم. وقد ورد الارتباط النصي بين القمر والكبش في (ص 88) محيلا على الافتتان بالجسد. كما ارتبط القمر في (ص 107) محيلا على علاقة العذاب بالجسد الأنثوي. كما وردت كلمة “قرن” وهي الممثلة في الجاهلية أيقونة للكبش القمر الإله في (ص 104) بما يدل على الألم والدم. وفضلا عن ذلك وردت كلمة دم في سياقات أخرى متصلة بالعلاقة بجسد الأنوثة ومنها:

” عسل ودم على شفتي
من فكرة القبلة” (ص 90).

قد تكون هذه تأويلات بعيدة ما دام الديوان لا يتعمد كثافة التوظيفات الأسطورية على مستوى دوالها. بيد أن الاشتغال على المادي والروحي أمر راسخ في لغة الديوان أيضا. كأن الجسد يتحول أحيانا إلى مطلق يتجادل حضوره وتجسده بغيابه وتجرده، أما الكائنات فإنها وإن اندفعت نحوه بالحس، فإنها تعتبره مصدر قوة وسلطة خارقة، لا يحوزه المكان ويعلو على الكائنات:

” نحوزك ونفقدك
نحوشك من الجهات
بالأغصان والرماح
فتمكرين
يدك فوق أيدينا” (ص 67)

يفيد هذا المقطع العلاقة الجمعية بالجسد بوصفه مطلقا. وتوجد بالديوان سياقات أخرى تؤكد هذا الاندفاع الجماعي مع ربطه بالرائحة تحديدا. فالرائحة تعبر كما ذكرنا؛ عن الترسبات الطفولية والحيوانية التي يحررها الكائن بالجسد ليكتشف أصوله. الرائحة التي لا تذكر فحسب، بل التي يواجه بها الكائن وجوده في الجسد بوصفه مكانا لتحرير الرغبات الدفينة. ههنا تعلن الذات عن رغبتها في تجربة التفرد بدل مشاعية التجربة. إن جسد الاسم الواحد الذي يشترك الجميع في الانجذاب إليه، هو أيضا ملاذ وخلاص الذات الفردية. الآخرون يصطدمون بوصاياهم وتعاليمهم فيخرون مستسلمين عند المعابر ( أثر العابر ص 68) أو يرضون بأثر العبور الزائل ( سر من رآك ص 129). أما تجربة الكشف الفرد فهي التي لا ترضى بغير أقاصي الانتشاء حيث تتداخل لحظة العدم بلحظة الوجود ويتصادى حضور الذات والجسد مع غيابهما.
وربما لأجل ذلك يطالعنا أمجد ناصر بعنوان ” معراج العاشق” بالإفراد فيما النص نفسه يقدم تجربة جمعية للجسد الأيروتيكي بوصفه محجا للكثيرين لا للواحد. وقد يكون هذا شكلا لإنتاج دلالة المقدس والمدنس، إذ يقدم الجسد متشظيا إلى حالي القداسة والابتذال. القداسة المتمثلة في اندغام الجسد الأنثوي بالكون عبر وسيط استعاري هو كلمة الأمطار (ص 53)، أو في الفاعلية الخارقة ( ص 57) أو في الإشراق الروحاني للثمرة المضاءة بوهج الأعماق (ص 55). والابتذال المتمثل في الحسية المألوفة، حسية العبور، وكأس الساقي، ولعق ريق الكأس، وصابونة الركبة، والجوربين، والظهر العاري، وغسل الشفتين بالرضاب…إنه الجسد المشترك في ابتذاله وماديته السفلية، الجسد الذي يتسع للجميع بامتياز:

” طلعنا عليك من كل فج
ولم ننفرد” ( ص 57).

لكن ذلك كله في الوقت نفسه جزء من حقيقة الجسد ومما يعطي له معنى وهوية. فليس الجسد صورا طوباوية. إن نسبه لا ينفصل عن الأكباش التي يهيجها البول (ص 12) وعطر الساقين (ص 92) واللسان الذي يكتشف ملوحة المخبوء (ص 93). و قميص اللعاب (ص 100)…إلخ هذه علامات لكينونة الجسد المشترك. لكن الانفراد بالذات هو معراج العاشق الواحد. فالمعراج لا يتسع للكثير. لا يتسع سوى لمن يندفع مخترقا تلك الكثافات المادية نحو العماء الذي يتوارى خلفها. العاشق الواحد ينخطف في مرتقياته خفيفا بعد أن يكون اختبر مبرر وجوده بواسطة فعل الاختراق الصعب. حينها تنفصل هويته عن العائدين الراضين بمجرد الابتهاج:

” بهجة
عائدين
من المعارج
إلى سرر دافئة في البيوت” ( ص 76)

إن هذه عودة الخاسر المستوحش، القانع بأثر العبور. عودة اليعسوب الذي لا يصعد نحو الأعمدة إلا ليسقط على العتبة. العودة استقرار وتعلق بالجسد المبتذل، أي الجسد الجمعي الذي يحتلم به العائدون في أحضان نسائهم (ص 71). أما معراج العاشق العارف والواصل، فهو طريق اللاعودة، ورحلته عبور في التخوم السحيقة وتيه يواجه عماءها وعدمها بالوجود ذاته. يقول الكائن :

أمطاري جافة
وشفتاك بليلتان” (ص 24)

تقلب هذه الصورة المعادلة الشعرية التقليدية التي أسست لصورة مألوفة لتواصل حسي ترتوي فيه شفتا العاشق بريق المعشوق، كما تنطوي على مفارقة كامنة في قرن الأمطار بالجفاف معلقة وجود الكائن (المطر) بوجود موضوعه (البلل). وليس في هذا وحده تتولد شعرية الصورة، بل تتولد أيضا بتحاورها مع صور أخرى في الديوان، منها صورة الإخصاب الذي يربط الجسد بالمطر الدائم (ص53 )، والصورة التي ترتبط فيها الشفتان بالفاجعة:

أخبرتني شفتاك
بمقتلة الكرز
وأنفاسك بحصاد الهال
وعيناك بالمصير الذي آلت إليه
سلالة اللوز” (ص 94)

في ضوء صورة هذا المقطع نعود لنقرأ في صورة المقطع السالف انجذاب الأمطار الجافة نحو بلل الشفتين، بالانجذاب المصيري الذي يختار فيه الكائن الارتماء في أحضان عدمه وموته. هناك تحديدا يصبح لحياته معنى المواجهة الدائمة للفناء.
وفي ضوء ذلك أيضا، تتبدى لنا الدلالة التي من أجلها خلق الديوان كل تلك الصور الحسية المعبرة عن حالة العبور في الجسد واختراقه. فلم يكن ذلك بالنسبة للكائن الشعري سوى محاولات للسيطرة على الجسد وامتلاكه، وقهر منعته ووحشيته. كأن هذا الكائن وهو يسترجع أصول الخليقة بمثابة الإنسان البدائي الذي كان يرى في رسم ونحت الحيوانات في كهوفه ومغاراته، محاولة للتغلب عليها وامتلاكها وتخليد لحظة سيطرته عليها. الفارق هنا أن المواجهة العنيفة مواجهة ذاتية وغيرية معا. تنتقل فيها أقصى حالات الامتلاك إلى انملاك. كما أن مواجهة الجسد تزدوج فيها صورة الجسد الفرد بصورة الجسد الجمع، وفضلا عن ذلك يواجه الكائن في الجسد الواحد أجسادا كثيرة، أجسادا صنعتها الأعراف، وأجسادا صنعتها الأوهام، وأجسادا صنعها الغيب، وأجسادا صنعها اليومي، وأجسادا صنعتها الغرائز، وأجسادا صنعها متخيل الجماعة. وبقدر ما هي مواجهة للمبتذل، هي أيضا مواجهة للمسكوت عنه. وبقدر ما هي مواجهة للمباح هي أيضا مواجهة للمحرم. ثم إنها بعد هذا وذاك مواجهة الكائن للنواة الأولى لخلقه، ألم تكن الحاسة الأيروسية هي أول شيء خلقه الله في جسد آدم؟
مواجهة الكائن لوجوده الأصلي يعني أن يدرك كينونته بوصفه فردا لاجمعا، فيختار جسده بإرادته لا أن يملى عليه اختياره أو يكتشف أنه مصنوع له صنعا بلا إرادته. قد يكون من المناسب في هذا الإطار أن نعدل قولة لأحد الوجوديين منطوقها :” أيها الإنسان اختر ذاتك”، فنجعلها كالآتي :” أيها الإنسان اختر جسدك”. لأن اختيار الذات دون ربطها بالجسد ضرب من التجريد والاختزال وإحداث انفصام في الكينونة. أما اختيار الجسد فيعني اختيار التفرد والكينونة الخاصة في تلبسها بالمادي الذي ليس قشرة للذات بل مصيرا لها.
إن الكائن يختار ذاته بوعيه الذاتي، لكنه يختار جسده بوعيه المصيري المتمثل في الانمحاء الجسدي الذي تمثله في الديوان صور الغيبوبة والإغماء والفناء في الجسد الآخر. الوعي الذاتي يجعل الفرد في مركز الوجود، لكن الانمحاء الذاتي الجسدي يجعل الفرد في مركز الجسد:

خذي يدي واجلسي لنغيب
فالسدى عيدنا
لا لنا
ولا علينا” (ص 129)

لا تحدث الغيبوبة في الجسد إلا إذا تعرت الذات من كل المحظورات والقيود. إن الكائن قبل ذلك مجرد منظومة قوانين وإرث تواريخ متهالكة ووصايا مشتركة لما يجب أن يكون وما يجب أن يجتنب. ليس الكائن تحت تأثيرها يقظا وواعيا إلا بما زودته به ووجهته إليه. إنها يقظته ووعيه بحيث لا يقوى على قهرها سوى بالنسيان. ولن يقوى على النسيان إلا إذا دخل في صيرورته الذاتية التي ينصت فيها للنداءات الصادرة عن وجوده الخاص به ككائن فرد، لا للنداءات التي تصوغه شبيها بالآخرين. وليصل إلى ذلك يكون مضطرا لمواجهة صيرورته في الجسد بكل عنف كما ذكرنا. إنه بتلك المواجهة يقاوم كل تراث المنع والحظر.
تحول الكائن إلى غيوبة وغياب هو ما يحرر طاقته التعبيرية الكلامية ويقهر خوفه من الانجرافات الشبقية، إذ أن ” الخدر يحل عقد اللسان” (ص 107). واللسان هنا يحمل دلالة أيروسية وأخرى لغوية.
إن الغيبوبة الخدرية لا تناقض اليقظة، ما يحدث هو أن اليقظة الحقيقية تصبح في الأنفاس لا في العقل:” سيمرون على أنفاسي يقظانة في المعابر” (ص 117). إن يقظة العقل هي التي وضعت المحرمات وعقدة اللسان، أما يقظة الأنفاس فهي التي اخترقتها لتعطي للكائن معنى. يقظة العقل هي التي أحدثت الخطيئة بأن أزاحت الحجاب الأول بين الذكر والأنثى. لكنها ما أن حررت العين من العمى حتى أعادته لها بوضع الأحجبة. أما يقظة الأنفاس فهي التي تحول الجسد كله إلى عين تنظر في العمى وفي الظلام. العقل جعل الجسد خطيئة، والأنفاس جعتله خلاصا، وهي آخر ما يرحل عنه:

فجأة أخلت يدك غنيمتها
وانبسطت العضلات
نسقط
على
آخر
نفس” (ص 112)

السقوط على آخر نفس دخول في الغياب بما يعنيه من مواجهة للفناء والتلاشي. وليست تلك سوى حالة لاندغام العدم والعماء بالوجود نفسه، ولاكتمال قصي بين المادة (الجسد) والروح (النفس). لعلها الحالة الوحيدة التي يتداخل فيها التعلق الأقصى باللذة بمصير الموت، ويسلم فيها الجسد نفسه للتلاشي والغياب.
إن الغياب لا يعم الهتافات البعيدة لمصير الكائن وحده، بل يعم أيضا جسد الأنوثة في تأرجحه بين الظهور والحضور وبين الستر والغياب. الستر بما هو انحجاب تؤول انجرافات الكائن لتعريته، والظهور بما هو نداء للعبور بلذته وفواجع آلامه :

ليست العبرة في القطعة الأجمل بين ثيابك
مرفوعة على رؤوس الأشهادد
بل
في
الحربة
عميقا
تغرس
نواة
الألم” (ص 122)

غير أن هذا الظهور هو أيضا مصدر لذة وسرور للرائي، أقصد السرور الانخطافي الذي يزيح الأحجبة ويرمي بصاحبه في التيه. أما انحجاب الجسد الأنوثي أوغيابه، فدال على وجوده. إنه الحاضر الغائب، المرئي واللامرئي، يحوزه الكائن ويفقده (ص 67). حاضر لكنه لا يرى (ص 60)، متواري الهيئة موجود بالرائحة (ص 59). وبالرغم من ماديته وكثافته، يتحرر من التحيز والتأمكن، ينصاع حينا، ويعلو حينا آخر على الكائن بمنعته وشساعته وسلطته.
إن لغة الحضور والغياب تتوازى مع لغة الوجود والفناء بالنسبة لذاتي الأنوثة والذكورة معا. وقد يمثل مجرد حضور الأنثى في المرئي الأيروسي مصدر سكر وغياب عند الرائي:

نراك على حافة السرير
…………………….
فنغشى
سكارى
وما نحن” (ص 66)

وهذه الرؤية يجب الاحتراز من أخذها على ظاهرها…إذ يجب ربطها بمتخيل الرؤية والعين في الديوان، كالرؤية بالرائحة، والرؤية في العمى، والرؤية في ليل الجسد وظلامه، رؤية السرة وصابون الركبة واشتمام السر، وربما لهذه الأسباب تطالعنا في الديوان نداءات الكائن للمخاطبة بالظهور: “أرينا وجهك”. لماذا مثلا طلب رؤية الوجه؟ يقول المقطع:

” أرينا وجهك لنجمل في المرايا
ونرقى بالسعف
لنحسن الظن بالأعضاء
حين تستدعى إلى العمل
لنطمئن” (ص 67)

يتأكد من المقطع قبل كل شيء الانفصال الحاصل على مستوى الرؤية بين الذات وموضوعها. أما الوجه فيمثل أيقونة لمطلق جمال الأنثى التي تبدو في الديوان متعالية أحيانا، حاضرة في كل مكان وإن غابت عن الأنظار. ويكون ظهورها مصدرا كافيا لفيض جمالي وطمأنينة. فالفيض الجمالي يتصالح الكائن مع صورته ويرى وجهه في المرايا مثلما رأى وجه الأنثى. وأما هذه المرايا فهي الجسد نفسه، لأن الجمال المقصود قد لا يكون سوى جمال الإحساس بالوجود في الجسد بوصفه معبرا لإثبات الكينونة. وهذا ما يفسر دلالة الطمأنينة الواردة في المقطع، فليست طمأنينة نفسية أو روحية بل طمأنينة الفعل الأيروسي حين يدرك أنه له معنى.
إن لغة الانحجاب في جدلها بلغة الظهور تمارس أحيانا بقصد من المتكلم النصي الذي لا يكاد يسمي الأشياء بمسمياتها حتى يتستر عنها مزيحا أسماءها لفائدة أسماء وضمائر تنوب عنها وتواريها وتضمرها، داعية القراءة لملاحقتها في مسارب متخيل التأويلات:

– ولدت بهذا الاسم.
– أرينيه.
– أريد أن أراه.
– نسبي هناك
– رأى ما رأى

إن الغائب الاسمي هنا خاص بالمتكلم وبلغته المشتركة مع المخاطبة، وذلك ما يعطي للخطاب صفة البوح والحميمية، وكأن الاقتصاد في اللغة يصل لحد التواصل بمضمرها لابظاهرها. بيد أن لغة الستر والانحجاب تتعدى ذلك إلى التعبير الكنائي والرمزي الذي يميز شعرية الديوان بصفة عامة. فاللغة وإن بدت عارية مكشوفة، فإنها غائرة في رمزيتها لدرجة أن الجسد يتحول فيها إلى متوالية من الصفات والأفعال الكنائية والرمزية. وهذا ما يميز هذا الديوان عن تجارب شعرية أخرى. وسبب ذلك كما ذكرنا سابقا أن الجسد لم يتخذ موضوعا أيروسيا مجانيا. بل مكانا أيروسيا لاستبطان كينونة الذات والعبور إلى مجاهلها المسكوت عنها مع اختبار قلق الذات في مواجهتها للمحظور وتعريتها للأقنعة التي حجبت حقيقة الجسد ولم تظهر منه سوى القوالب. أظهرت الكثرة وحجبت الإفراد، ثم أظهرت الإفراد وحجبته بالليل:

امرأتنا كلنا
كثيرة في النهار
وواحدة في شفافة الليل
تضحكي فنعيا
تعلقين مصائرنا على الأهداب
فنسقط من رعدات ما شبه
بالحماء
يعقبها السبي” (ص 65)

إن الجسد بوصفه مكانا لتشظي الأزمنة، يتستر ويظهر، يدنو من الكائن ويبتعد عنه، يهبه خرائطه تارة ويسلمه للمتاهات تارات أخرى. ويظل في كل حالات الديوان وتحولاته ممهورا بالرؤية العبورية التي تمثل نواة رئيسة في شعرية أمجد ناصر فاعلة في صورته عن المكان وبنياته.
أما الكائنات التي تشكلت في لغة الديوان وانغمس فيها متخيله، فكائنات عبورية بامتياز. إما ترتقي في عبورها لدرجة الخفة التي لا تعود منها. وهذه حالة العابر الواصل، أي الواصل بمعنى العاشق والصوفي معا، المرتقي في أحوال الجسد بهدف اتحاد وجود معه يفنى فيه بالغياب مادام ذلك علامة على حضوره الأبدي، وإما تُواجَه تلك الكائنات بصلابة المكان الجسدي المكونة من إرث الذاكرة التراثية الإنسانية، فتنكسر في معارجه واقعة عند عتباته في انتظار معراج جديد.
إن الجسد مكان غربة وذكرى أيضا، وهو قبل كل ذلك مكان الهتافات السحيقة التي لا تتوقف عن حث الكائن على اختبار خفته القصوى. إذ بها يثبت حريته وكينونته ومصيره في مواجهة الألم والعدم.

هامش: صدر ديوان ” سر من رآك” لأمجد ناصر في طبعته الأولى سنة 1994 عن دار السراة بلندن. ونشرت معظم نصوصه بمختارات ” أثر العابر” منشورات ” شرقيات” بمصر

 

رشيد يحياوي / عن جهات الشعر

التعليقات مغلقة.