«1شارع الكراكون»… براح القصة القصيرة في دنيا أخرى يسكنها الفقراء فقط!
نعيش حياتنا الرتيبة والمكررة إلى أن يأتي يوم يحمل في دقات ساعاته دقة مميزة لحظة واحدة قد تكون فاصلا بين حياة وحياة، بين حال وحال، تبرق فجأة لتنير طريقا اعتدنا السير فيه بعيون مقفلة فنراه كأول مرة وندرك ساعتها وساعتها فقط أن هناك سبيلا اخر لم نختره ورأيا اخر لم نسمعه .
بهذا الاستهلال الموحي بدأ صاحب المجموعة القصصية «1» شارع الكراكون علاء السركي يسرد تفاصيل أبطاله اليومية كاشفا عن جوانب رئيسية من شخصياتهم وطبائعهم وظروفهم الاجتماعية والإنسانية وهو يميط اللثام عن الوجوه المكدودة باستحياء شديد ويعلن من أول وهلة انحيازه لمجتمع الفقراء، وبرغم أنه لم ينكر أخطاءهم ولم يبرر سقطاتهم إلا أن تعاطفه معهم يظل هو الملمح الأهم فيما يرويه عنهم بكثير من الحب وكثير من الاسى .
علاء السركي كاتب في العقد الرابع من العمر له خبرات في الكتابة القصصية تفوق ما تم التعبير عنه فعليا فيما نشر ربما لأنه يعمل في الأصل في مهنة إبداعية لها صلة وثيقة بالكتابة، أو لأنه تخرج في مدرسة الليسية الثانوية للغات فانفتح مبكرا على الأدب الفرنسي واغترف منه وتأثر بأهم كتابه قبل أن يلتحق بالجامعة وتثقل موهبته بالمزيد من الدراسات والمعارف بكلية الإعلام جامعة القاهرة حيث التخصص الرئيسي .
في أول قصة بالمجموعة المذكورة وتحت عنوان « الحائط الزجاجي « يكتب علاء ليفتش عن مواطن البيروقراطية في دواوين الحكومة العتيقة ويرصد عبر رحلة إنسانية وظيفة لواحد من الموظفين الرسميين « سليمان عبد الستار « تناقضات الحياة الزاخرة بالأشياء وأباهها والمعاني وضداها فهو يرقب ما يجري داخل المصلحة الحكومية من وراء حائط زجاجي يفصله مجازا عن مكتب المدير العام ولكنه يمنحه الفرصة للاطلاع عبر شفافية ليراقب ويسمع ويرى ألوانا من الممارسات البيروقراطية يحسد أصحابها على احترافيتهم .
وفي قصة أخرى بعنوان « سيد وفتيحة « نجد علاء السركي وقد اقترب أكثر من النماذج الهامشية الأكثر فقرا ودأبا فهو يركز ليس على مظهر الشخصية البادي في ملامحها ولكنه يمعن النظر في الجوهر وينفذ إلى ما بعد الشكل العام، فعامل النظافة وذلك الساعي المقطوع نفسه ذهابا وإيابا أو غيرهما من أبطال المهن الثانوية ليسوا إلا نماذج لقطاعات واسعة من البشر تعيش على رصيف الحياة ككم ممل لا يلفت نظر السادة البكوات أصحاب القرار .
لم يقل الكاتب ذلك بهذه المباشرة وإنما يمكن استخلاص ذلك من خلال القراءة بين السطور لمعاناة شخصياته التي تتشابه في ظروفها وآلامها وتقضي أحيانا في لهاث بغير توقف وبامتداد الحالة ذاتها وبتجانس النوعيات والشخصيات ووحدة الشقاء الذي يجمع بين أبطال القصص يواصل علاء السركي عروجه على الخيط الرفيع الواصل بين عوالم بيئية متجاورة في جغرافيتها ومتساوية في مصائرها فها هو يذهب إلي الفئة التي يزينون بها كادرات السينما لزوم ما يلزم من إتقان الحبكة الدرامية والارتقاء بمستوي أداء النجوم أبطال العمل الفني الكبير .
هوة ساحقة تفصل بين مستويين من الأداء، أداء الأبطال وأداء الكومبارس برغم أن شاشة واحدة تجمعهما وهو الإلماح إلى الفوارق الواقعية بين البشر برغم أن حياة واحدة تعيش فيها الطبقات ولكن ليس بنفس الكيفية المقياس إذن لا يكون بما نحياه من أعمار وإنما السؤال الذي يستلزم الإجابة قبل المقارنة كيف نعيش ؟.
ومن عمومية الصورة الدرامية القصصية إلى خصوصياتها ينتقل بنا صاحب الكتابة ليرينا مساحة محدودة من « الميدان « ولأول وهلة نظن أن كما عهدنا منذ قيام ثورة 25 يناير في ألوان إبداعية كثيرة ولكننا نفاجأ بأن العنوان ما هو إلا إشارة لمسرح الأحداث بميدان الجيزة وهو واحد من الميادين الأكثر ازدحاما والمليئة بأبلغ الصور المأسوية ليست صورة ولا اثنتين بل فئات .
الصور اليومية تجسدها حالات مؤلمة للعوز والفقر والعجز والسخط والغضب والتشنج و البكاء فكيف مط كل هذا الخليط لسيدة مسنة معوقة أن تتحرك بين المارة وتعبر الطرق والإشارات بكرسي له عجلات .
إنها لقطة واحدة تتوافر فيها كل مكونات التراجيديا دون الحاجة لمزيد من البهارات القصصية لزوم التأثير .إيجاز وحساسية وتكثيف مفرطة في التقاط الأهم من المعاني ذات الدلالات .
في القصة التي هي عنوان المجموعة القصصية « 1 شارع الكراكون « يدخلنا الكاتب علاء السركي غمار تجربة طالما رأيناها رأي العين ولكننا عبرناها سريعا ولم تستوقفنا طويلا إلا حين أصبحنا طرفا فيها التجربة يمثلها طابور طويل من البشر أصحاب الحاجات الإدارية لدى المصالح الحكومية الشهر العقاري أو مصلحة الضرائب أو مكتب الفيش والتشبيه أو طلب الوظيفة كلها متساوية المهم ما ينتهي عنده هذا الطابور حيث تقف البطلة سناء بجيركن الكيروسين وقطعة القماش البالية أدواتها للحصول على قروش الزبائن، فهي تقدم خدمة مقابل أجر لمن يريد تنظيف يده من بصمات الحبر الأسود بعد الفيش والتشبيه. سناء فتاة في العشرين من عمرها تعتمد بشكل أساسي على هذا الدخل البسيط عساها توفر لنفسها وغيرها ما تيسر من الاحتياجات الضرورية. رحلة يومية تبدأ من الثامنة صباحا وتنتهي في الثانية ظهرا نتابع خطواتها من خلال سرد زكي تشوبه عاطفة صادقة من كاتب وقاص يتميز في هذا اللون من الحكي والميلودراما الإنسانية دون الإغراق في الكآبة أو التأثير السلبي على القارئ حتى في ظل النهايات المؤلمة تذهب المؤثرات ويبقى المعنى الإنساني راسخا في الذاكرة ووقارا في القلب إيمان لا يتزعزع بحق الفقراء في الحياة الكريمة .
عن القدس العربي
التعليقات مغلقة.