أردوغان وإعادة النظر في الحدود التركية
خورشيد دلي
ربما لم يكن المسؤولون اليونانيون يتوقعون عندما زارهم رجب طيب أردوغان قبل أيام أن الأخير سيطالب بإعادة النظر في اتفاقية لوزان عام 1923، فالاتفاقية التي رسمت حدود تركيا الحالية ووقعت عليها 11 دولة، مضى عليها قرن من الزمن، ولعل طرح أردوغان هذه الاتفاقية، في شكل متكرر خلال السنوات الأخيرة، يثير السؤال التالي: هل الهدف هو التطلع إلى استعادة أراض خسرتها تركيا عقب الحرب العالمية الأولى؟ أم لتحسين شروط تركيا في الخلافات الجارية مع الدول المعنية أو حتى لمنع تكرار لوزان ثانية؟ بداية، لا بد من الإشارة إلى أن طرح أردوغان لإعادة النظر في اتفاقية لوزان جاء على وقع التطورات التي شهدها العراق وسورية خلال السنوات الماضية، وسط تلميحات تركية صريحة إلى حقوق تاريخية في الموصل العراقية وشمال سورية، مقروناً بالحديث عن العثمانية الجديدة، حيث لسان حاله يقول إن هذه الاتفاقية لم تكن انتصاراً لتركيا كما كان يقول أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، إذ إن الأخير وأنصاره من بعده، كانوا يقولون إن اتفاقية لوزان هي التي أنقذت تركيا من اتفاقية سيفر التي أقرت في بنودها 62- 63 – 64 على إقامة دولة كردية في جنوب شرقي البلاد، وكذلك على إقامة دولة أرمنية في المنطقة التي تعرف بأرمينيا الغربية والواقعة داخل الأراضي التركية حالياً، فيما يقول أردوغان إن هذه الاتفاقية أدت الى خسارة تركيا مساحات هائلة من الأراضي.
في الواقع، ينبغي القول إن مرحلة ما بعد لوزان انتهت إلى ثلاث قضايا مهمة، على صعيد الحدود الجغرافية للدولة التركية. الأولى: اتفاقية أنقرة عام 1926 بين تركيا وبريطانيا والعراق، والتي قضت بتبعية الموصل لسيادة العراق الذي كان تحت سلطة الانتداب البريطاني. والثانية: سلخ منطقة لواء الإسكندرون عن سورية عام 1939، وضمها إلى تركيا باتفاق مع سلطة الانتداب الفرنسي. والثالثة: جملة الاتفاقيات التي نظمت الخلافات التي تشوب الحدود التركية – اليونانية ولا سيما في بحر ايجه وحدود المياه الإقليمية وغيرها. وعلى رغم هذه القضايا الشائكة في علاقة تركيا بكل من سورية والعراق واليونان، إلا أنه لم يسبق للمسؤولين الأتراك أن فتحوا باب المطالبة بإعادة النظر في اتفاقية لوزان، إلا في السنوات الأخيرة من حكم حزب العدالة والتنمية وتحديداً عقب وصول أردوغان إلى رئاسة الجمهورية عام 2014.
ولعل حديث أردوغان هذا يحمل دلالات كثيرة،
من أهمها:
1- أن هذا الحديث جاء في ظل تطورات مهمة على الأرض في سورية أوحت في لحظة ما بإمكان إسقاط النظام عسكرياً، قبل أن تنقلب الموازين عقب معركة حلب. ومع أن تركيا خرجت من هذه المعركة خالية الوفاض، إلا أن عملية درع الفرات قبل أكثر من سنتين واليوم عملية إدلب، أعطتا جرعة قوية لأردوغان في فتح باب الوجود التركي في شمال سورية وربما التفكير في ما حصل في شمال قبرص.
2- أن تركيا وبحكم تطور قدراتها وصناعاتها العسكرية، ترى أن جملة التطورات والظروف الجارية في المنطقة تسمح لها بالتحرك لصوغ مستقبل المنطقة من جديد؛ ففي الحالة العراقية طرحت المشاركة في معركة الموصل وأصرت على قاعدتها في بعشيقة على رغم رفض بغداد. وفي قطر، أقامت قاعدة عسكرية على وقع الأزمة الخليجية، وفي الصومال أقامت قاعدة عسكرية. ومع أن الدوافع مختلفة، إلا أنها في الحالة العراقية كثيراً ما اقترنت بالحديث عن إعادة النظر في اتفاقية انقرة عام 1926 بوصفها امتداداً لاتفاقية لوزان وألحقت أراضيَ تركية بالعراق.
3- في الحالة اليونانية تبدو الأمور مختلفة، إذ إن العلاقات بين البلدين تعوم على بحر من العداء التاريخي والخلافات المزمنة، فمن لحظة طرد العثمانيين البيزنطيين من اسطنبول (القسطنطينية) إلى حرب اليونانيين، من أجل الاستقلال عن الدولة العثمانية، وصولاً إلى الخلافات الكثيرة على المياه الإقليمية والقضية القبرصية، ثمة عداء تاريخي وخلافات مزمنة عجزت كل المبادرات التي أجريت حتى الآن عن إقامة علاقات دافئة بحجم الجوار الجغرافي والمصالح المشتركة. وعليه، فإن الأمر هنا يأخذ طابع الصدام الحضاري. وقد بدا هذا الأمر واضحاً، عندما تحدث أردوغان خلال زيارته إلى تراقيا عن التمييز الذي تتعرض له الأقلية المسلمة في اليونان.
4- أن التحركات العسكرية والسياسية التركية هذه تتزامن مع دعوة أردوغان المؤرخين الأتراك مراراً إلى إعادة كتابة التاريخ التركي، خلال حقبة الحرب العالمية الأولى ودراسة الاتفاقيات التي أجريت من جديد، ولعله يريد من وراء دعوته هذه مسح الغبار عن تاريخ تلك المرحلة والخروج بأجندة سياسية لمصلحة رؤيته عام 2023، تلك الرؤية التي تمهد لتركيا جديدة على إرث جمهورية أتاتورك، ومثل هذه الرؤية الجديدة تحمل مقومات (العثمانية الجديدة) كهوية لتركيا بدلاً من الهوية العلمانية الوطنية التي أسسها أتاتورك.
مع إصرار أردوغان على وضع المطالبة بإعادة النظر في اتفاقية لوزان على الأجندة على رغم رفض الدول المعنية، ثمة من يرى أنه يدرك أن التطلع إلى خارج الحدود وإعادة رسم الحدود الجغرافية التي رسمتها الاتفاقيات الدولية أكبر من قدرة تركيا وحجمها؛ فعلى الأقل، إن مثل هذه التطلعات ستقابل برفض روسي وأميركي وأوروبي وإيراني ويوناني وعربي … وعليه، فإن حديث أردوغان عن لوزان يندرج في إطار سعيه إلى بناء الداخل التركي وفق منظومته الأيديولوجية من جديد، وربما وسيلته إلى ذلك هي رفع شعار منع تكرار لوزان ثانية من بوابة الحديث عن المؤامرة الدائمة ضده.
المصدر: الحياة
التعليقات مغلقة.