الإيزيدية تواجه محنة الاستئصال والإلغاء

37

p26-01-25458-640_813900_large

 

 

 

 

 

 

في مشهد مؤثر تناقلته وسائل الإعلام المرئية، ظهرت النائبة العراقية من التحالف الكردستاني، فيان دخيل، وهي تتوجه بكلمات مؤثرة الى البرلمان العراقي. أشارت المتحدثة إلى ما يتعرض له أبناء الطائفة الإيزيدية من قتل وتهجير واضطهاد وحشي بعد دخول تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” منطقة سنجار إثر انسحاب قوات البيشمركة الكردية منها، فقالت بصوت متهدج قبل أن تجهك بالبكاء: “هناك حملة ابادة جماعية على المكوّن الإيزيدي. أهلي يُذبحون، كما ذُبح كل العراقيين. ذُبح الشيعة والسنة وكل الطوائف. نريد بعيداً عن كل الخلافات السياسية تضامناً انسانياً باسم الانسانية، أنقذونا. ثلاثون ألف عائلة محاصرة في جبل سنجار، سبعون طفلاً ماتوا من العطش والاختناق. نساؤنا تُسبى وتباع في سوق الرقّ، نطالب البرلمان العراقي بالتحرك. نُذبح، نُباد، يُباد دين كامل”.

بينما يتواصل الحصار الذي يفرضه تنظيم “داعش” على منطقة سنجار ضمن حملته للسيطرة على المزيد من المناطق العراقية بعد الاستيلاء على الموصل، عادت طائفة الإيزيديين إلى الواجهة، وخرجت تقارير عدة تتحدث عن هذه الأقلية الغامضة وعن معتقداتها وتقاليدها. تكرّر السؤال: من هم الإيزيديون؟ ماذا يعني اسمهم؟ وبماذا يؤمنون؟ على مر الزمن، سعى عدد من الكتاب والبحاثة للإجابة عن هذا السؤال، غير أن أحداً منهم لم يأت بالجواب القاطع. من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، تضاعف عدد الدراسات التي تناولت هذه الطائفة، وتضاربت الآراء في تحديد هويتها بشكل كبير، وبقي السؤال الشائك من غير إجابة: من يكون الإيزيديون، وما هي اسس معتقداتهم ومكوناتها؟ ما هي أصولهم العرقية، وما موقع ديانتهم في خريطة الديانات العالمية؟ هل تنتمي هذه الديانة إلى عائلة الديانات التي توصف بـ”السموية”، أم أنها تتصل بالديانات القديمة التي قضت عليها الديانات التوحيدية “الشرعية”؟ مع احتدام الصراع والمواجهات الدائرة في شمال العراق، تعود هذه الأسئلة بحدة، وتتوالد التقارير التي تسعى إلى التعريف بهذه الطائفة المحاصرة.
الكلام عن الإيزيديين يقود إلى الكلام عن الأرض التي تجمعهم، وهي أرض شمال العراق الذي يشكل متحفاً للديانات المندثرة والحية كما يجمع الخاصة والعامة. زار المبشر الانكليزي ويكرام هذه المنطقة في مطلع القرن العشرين، ووضع عنها كتاباً عنوانه “مهد البشرية”، ولهذا العنوان أكثر من دلالة، “فإن الأجناس التي تقطن هذه الديار واللغات التي تتكلمها والتقاويم الشهرية التي تستخدمها تأخذ المرء بعيداً عن العصور الأولى لنشوء الحضارات إلى مراحل في تاريخ العالم تبدو الآن سحيقة في القدم”. جمعت الموصل بين العرب والكرد المسلمين، وضمت طوائف مسيحية عدة، كما أنها حوت “بقايا السبي البابلي المتمثل بالفرس واليهود الناطقين بالآرامية”، والإيزيديين “الذين يعتبرون الشيطان أحد أوليائهم الرئيسيين”، والشبك الذين “يتكلمون لهجة غريبة”، وهم بحسب جيرانهم “بقايا غزوات المغول الكبرى”. “كما نجد في الموصل عوائل من المندائيين أو ما يسمّون بالنصارى أتباع يوحنا المعمدان، وهم طائفة من محترفي صياغة الفضة، ويمكن إرجاع معتقداتهم إلى القدماء الذين كانوا يعبدون القمر”. حوى سهل الموصل هذه الأديان والمعتقدات ووصل بينها، ونعرف أن الموصل سميت بهذا الاسم لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق، كما وصلت بين دجلة والفرات، كما تقول كتب التراث. يرى الأب سهيل قاشا أن لفظة الموصل “تعني مكان اللقاء أو المواجهة أو عقدة المواصلات”، والمدينة التي تحمل هذا الاسم “هي في حقيقة الأمر تشبه الإقليم، محل التقاء اللغات والمعتقدات”، وولاية الموصل امتداد لهذا الإقليم، “ومن النادر أن يجوب المرء وهو يجوب سهل الموصل العظيم قريتين متجاورتين يقطنهما نفس الجنس ويتكلم أهاليهما لغة واحدة ويعبدون إلها واحدا”.

بقايا دين قديم
سعى أكثر من باحث إلى فك لغز الإيزيديين والولوج في عالمهم المغلق. نجد في كتاب رشيد مخيون، “الأديان والمذاهب بالعراق”، فصلاً خاصاً بهذه الطائفة يستعيد هذه الأبحاث ويقارن بينها قبل أن يستخلص نتيجتها. تحصن أبناء هذه الجماعة في وادي لالش بشيخان وجبل سنجار في سهل الموصل، وعاشوا كطائفة “مغلقة” تلتزم ديانة غير تبشيرية تحرم زواج الرجل الإيزيدي بغير المرأة الإيزيدية، وزواج المرأة الإيزيدية بغير الرجل الإيزيدي. أبرز كتب هذه الطائفة تعود إلى أزمنة حديثة نسبياً، أي انها لا تعود إلى زمن نشوء هذا الدين وتطوّر تكوينه. حتى الأمس القريب، لم يحاول الإيزيديون التعريف بنفسهم، بل تركوا الآخرين يقولون فيهم ما يشاؤون، وقبلوا أسماء نُعتوا بها، وذلك لمجاراة محيطهم ظاهرياً. على مدى قرون من الزمن، اعتمد شيوخ هذه الطائفة الرواية الشفهية، ولم يقبلوا بكتاب مكتوب. كتبهم المعروفة اليوم، مثل “مصحف رش” و”الجلوة”، تُعتبر حديثة، مقارنةً بالكتب الدينية الأخرى. التزم أصحاب هذا المذهب “علم الصدر”، وهو العلم الذي ساد قبل ظهور التدوين واضمحل في القرن الثاني للهجرة، وحافظوا على هذا التقليد بثبات. عُرفوا بالتوق إلى عالم الأرواح وبكره الملاعنة، كما عُرفوا بالزهد والتقشف، واجلالهم لشيخ يُعرف باسم عدي أو آدي أو عادي، غير أنهم اعتُبروا من الملاحدة الخارجين عن الإسلام، ولاحقتهم الفتاوى القاتلة في زمن العثمانيين، لكنها فشلت في محو أثرهم. تغيّر اسمهم بين عهد وعهد، وبات من الصعب تحديد اسمهم الأول، فهم الإيزيديون، وهم اليزيديون، وهم الأمويون، وهم عبدة الشيطان الذين يقدسون رئيس الملائكة عزرائيل المعروف بطاووس ملك، اول مخلوقات الله يوم الأحد.
في القرن الماضي، وفي عهد حزب البعث، اعتمدت الدوائر رسمية تسمية “اليزيدية” و”اليزيديين”، غير أننا لا نعلم إلى أي يزيد تعود هذه الطائفة، فهل هو يزيد بن معاوية، أم هو يزيد بن أنيسة، أم يزيد بن عنيزة الذي كان يمثله الشيخ عدي، شيخ الطائفة وشفيعها؟ في “الملل والنحل”، يذكر الشهرستاني فرقة من أتباع يزيد بن انيسة الخارجي تُعرف بـ”اليزيدية”، وهي فرقة منشقة عن الأباضية: “أصحاب يزيد بن أنيسة الذي قال بتولي المحكمة الأولى قبل الأزارقة، وتبرأ ممن بعدهم إلا الإباضية، فإنه يتولاهم، وزعم أن الله تعالى سيبعث رسولاً من العجم وينزل عليه كتاباً قد كُتب في السماء، وينزل عليه جملة واحدة ويترك شريعة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام، ويكون على ملة الصابئة المذكورة في القرآن، وليست هي الصائبة الموجودة بحران وواسط. وتولى يزيد من شهد لمحمد المصطفى عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب بالنبوة وإن لم يدخل في دينه.
وقال: “إن أصحاب الحدود من موافقيه وغيرهم كفار مشركون، وكل ذنب صغير أو كبير فهو شرك”. في كتاب “الأنساب”، يذكر السمعاني هذه الجماعة، كما يذكر جماعة أخرى تحمل اسماً مشابهاً، وعنها يقول: “وجماعة كثيرة لقيتهم بالعراق في جبال حلوان ونواحيها من اليزيدية، وهم يتزهدون في القرى التي في تلك الجبال ويأكلون الحلال، وقلما يخالطون الناس، ويعتقدون في يزيد بن معاوية الامامة وكونه على الحق. ورأيت جماعة منهم في جامع المرج منصرفي من العراق يوم الجمعة، وكان قد حضروا الجامع للصلاة”.
تسقط الأبحاث المعاصرة هذه تسمية “اليزيدية”، وتظهر ان الإيزيديين جماعة مستقلة لا تمت إلى اليزيديين بصلة، غير أن تسمية “الإيزيدية” تبقى لغزاً. قيل إن هذه التسمية تعود إلى يزدان، أو أيزد، الإله المقدس في الزرادشتية. ويرد اسم يزدان في صلاة الفجر الخاصة بالإيزيديين: “باسم الله يزدان المقدس الرحيم الجميل، إلهي لعظمتك ولمقامك ولملوكيتك، يا رب أنت الكريم الرحيم الإله ملك الدنيا جملة الأرض والسماء، ملك العرش العظيم”. وقيل إن هذه التسمية تتصل بموقع “يزدم” الذي ذكره مؤرخ يوناني في القرن السابع الميلادي، وهو موقع مجاور لمنطقة حدياب الشهيرة في شمال بلاد الرافدين. وقيل كذلك إن هذه التسمية تتصل بالكلمة السومرية “آ-ذي-دا”، أي الروح الخيرة والخير. في الخلاصة، تشير هذه التسمية إلى أن هذه الديانة هي “بقايا دين قديم” يعود إلى الفترة التي سبقت ظهور الديانات التوحيدية المعروفة اليوم، وقيل إنها تتصل بالديانة الميثرائية، غير أن الشواهد المطروحة لا تكفي لتأكيد هذه النسبة بشكل قاطع. في المقابل، ظهرت آراء جديدة تربط بين الإيزيدية والحضارة السومرية وترى فيها امتداداً للديانات التي ظهرت في تلك الحقبة البعيدة.

المولود من نور الله
عُرفت هذه الجماعة الغامضة بـ”اليزيديين”، كما عُرفت بـ”الأمويين”، وقد سعت الحكومة العراقية إلى تكريس هذه التسمية في نهاية الستينات لأسباب قومية كما يبدو، وخرجت في تلك الفترة كتابات تؤكد أن غالبية الإيزيديين من العرب. كما هو معروف، يكرم الإيزيديون اكراماً عظيماً شيخاً يُعرف بالشيخ عدي، ونجد في كتب التراث الإسلامي شيخاً بهذا الإسم عاش في هذه المنطقة بالذات. في “الكامل في التاريخ”، يذكر ابن الأثير هذا الشيخ في استعراضه حوادث سنة سبع وخمسين وخمسمئة حيث يقول: “وفيها، في المحرم، توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد المقيم ببلد الهكارية من أعمال الموصل، وهو من الشام، من بلد بعلبك، فانتقل إلى الموصل، وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه، وحسنوا الظن فيه، وهو مشهور جدا”.
في “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان”، يذكر ابن خلكان هذا الشيخ “الهكاري مسكناً”، وهو “العبد الصالح المشهور الذي تنسب إليه الطائفة العدوية، سار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير، وجاوز حين اعتقادهم فيه الحد، حتى جعلوه قبلتهم التي يصلون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها”، “وكان مولده في قرية يقال لها بيت فار من أعمال بعلبك، والبيت الذي ولد فيه يزار إلى الآن. وتوفي الشيخ سنة سبع، وقيل خمس وخمسين وخمسمائة، في بلده بالهكارية ودفن بزاويته، رحمه الله تعالى، وقبره عندهم من المزارات المعدودة، والمشاهد المقصودة، وحفدته إلى الآن بموضعه يقيمون شعاره ويقتفون آثاره، والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد وتعظيم الحرمة”.
يجلّ الإيزيديون شيخاً يحمل اسم عدي أو آدي أو عادي، ويصعب الاقرار بأن هذا الشيخ هو نفسه الشيخ عدي المسافر المسلم السنّي الشافعي الصوفي الذي كان له مريدون وأتباع كثر، إذ لا نجد في معتقدات الإيزيديين وطقوسهم ما يوحي بهذا الرابط. في المقابل، نجد دراسات أخرى تربط بين الشيخ عدي الإيزيدي والقديس آدي المسيحي، أحد مبشري الكنيسة الأوائل، غير أن هذه القراءات الافتراضية لا تجد سنداً يؤكدها بشكل جلي. في النتيجة، تخرج آراء جديدة تقول إن الشيخ عدي كان كردياً زرادشتياً، لكن هوية هذا الشيخ تبقى غامضة، وسيرته تظل غير معروفة. ينقل رشيد خيون عن أحد كبار مشايخ الإيزيدية قوله: “إن عدي بن مسافر ليس عادينا، الذي صنعه الله من نوره”.
وينقل عن خيري بوزاني مدير مركز لالش الثقافي في وسط دهوك: “نحن نعتبر الشيخ عادي خارج القومية، ونعتقد أنه من نور الله، وأن ديانتنا، حسب ما يحمله شيوخنا من حفظ في الصدور، من أقدم الديانات”.

الحصار المتجدد
ربط الأقدمون بين الإيزيدية واليزيدية، وأدى هذا الربط إلى اعتبار هذه الديانة القديمة فرقة من الفرق المارقة الخارجة عن الإسلام. تعرض أتباع هذه الديانة إلى حملات منظمة بهدف محو أثرهم، وجاءت هذه الحملات أثر صدور فتوى وقّعها الشيخ أبو السعود العمادي، مفتي الدولة العثمانية لمدة ثلاثة عقود في عهدي سليمان القانوني وسليمان الثاني. تكررت هذه الحملات في مطلع القرن العشرين حيث استولت السلطة على معاقل الإيزيديين، وحوّلت معبدهم الرئيسي في وادي لالش إلى مدرسة إسلامية، وحرمتهم من زيارة هذا المعبد طوال خمس سنوات. تجاوز الإيزيديون هذه المحن وصمدوا، وخرج منهم في العقود الماضية جيل جديد يقرأ ويكتب ويجادل ويعرّف بنفسه للمرة الأولى من خلال منابر عدة، أبرزها مجلة “لالش” الصادرة بدهوك، ومجلة “روش” الصادرة في ألمانيا. خرج الإيزيديون من الهامش الذي فرضه عليهم محيطهم وجوارهم على مدى قرون من الزمن، وها هم اليوم يعودون إلى الظل في ظل حملة تكفيرية جديدة فاقت بوحشيتها ما شهدوه في الماضي البعيد والقريب. هل تنجح هذه الحملة المنظمة في محو أثر اليزيدية من الخريطة العراقية؟ في انتظار الجواب، يتابع العالم حملة الإبادة المنظمة التي تقوم بها “داعش”، بينما تكتفي طائرات القوة الجوية بتوزيع مساعدات انسانية “تحتوي على الاغذية ومياه الشرب على نازحي منطقة سنجار، وذلك بما يعادل عشرين طنا في كل طلعة جوية، على الرغم من طبيعة المنطقة الجبلية الصعبة”.

عن ملحق النهار اللبناني

التعليقات مغلقة.