أبعد من أزمة كردستان: انكشاف الجغرافيا!

38

بهاء أبو كروم

بمجرد ما استقر نظام الحكم في العراق على صيغة تجاهلت إجراء مصالحة حقيقية وبقيت لا ترضي جميع الفئات، فتح ذلك الباب أمام تنامي التوجهات الكونفيدرالية التي دفعت الأكراد إلى المطالبة بالانفصال، وتتطلع فئات من العرب السنة إلى نموذج مماثل لا بد حاصل في حال استمرت السياسات الطائفية في العراق.

أهمية الخطوة التي بادر إليها إقليم كردستان، وبغضّ النظر عن مآلاتها، تكمن في اعتبارها فاتحة لسياق لن يتوقف عند هذا الحد إنما سيتطور إلى تآكل ما تبقى من مقومات الدولة العراقية. طبعاً التآكل الوطني أصبح من السمات الرئيسية لدول المنطقة ولن يكون بعيداً من تركيا وإيران اللتين يتأجّج فيهما صراع القوميات.

رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني يملك منطقاً متماسكاً يُبرّر فيه حقه بإجراء الاستفتاء حين يعتبر أن اتفاقاً جرى الإخلال به من طرف الحكومة، ومن الطبيعي أن يستتبع خطوات وردود فعل مـــشروعة ومُحقة، وذلك كأي اثنين تعاقدا على شيء وأحدهم أخلّ بمضمون التعاقد. العقد الاجتماعي الذي يتحدث عنه برزاني يتعلّق بالدستور العراقي الذي لم يلحظ تحكّم الميليشيات بالدولة أو تبعيتها لإيران ولا أن يكون العراق دولة شيعية بمعنى الولاء والأداء والتبعية. فبعد 15 عاماً من إسقاط نظام البعث لم يمتلك العراق بعد مقومات التماسك الوطني التي تكفل الحفاظ على وحدة أراضيه، ولم يتخلص من موروثات حقبة صدام حسين ومن عقلية الاجتثاث التي أعقبتها!

الأزمة التي فجرتها كردستان على خلفية الاستفتاء وحجم ردود الفعل عليها دلّا على أن «دولة الخلافة» ليست سبب المعارك التي تدور في المنطقة، وأن الحرب على «داعش» لن تكون آخر الحروب. فمَن بنى سياساته على أن اليوم التالي بعد «داعش» سيشهد انطلاق الحل السياسي في سورية وترتيب المنطقة كان واهماً. ومن يتحدث عن وحدة العراق في ظل تبعيّته لإيران والسياسات الحكومية التي تديرها المرجعيات والفتاوى والحشد الشيعي أيضاً واهم. ومَن يتحدث عن وحدة أراضي سورية في ظل نظام الأسد سيكون بدوره واهماً. وبالتالي فإن اليوم التالي بعد القضاء على «داعش» هو يوم انكشاف الجغرافيا السياسية في المنطقة على وقائع جديدة ما يقرّر فيها هي العلاقة المباشرة للفئات التي قاتلت مع القوى العظمى الموجودة على الأرض إلى جانبها وتنخرط معها في أجندات مشتركة لا تمر عبر أي وسيط وطني أو سلطة محلية، كل هذه «الوسطيات» تفتقد تدريجياً القدرة على التقرير أو الاعتراض.

بمعنى أن الأكراد انسلخوا وجدانياً عن أطر الحكم القائمة في المنطقة كلّها ولم يتبقّ عليهم إلا أن يجدوا صيغة مناسبة لتجسيد كياناتهم المحلية في العراق وسورية. وكما الأكراد فإن كل الفئات المغلوبة هي بالواقع مُنسلخة عن أطر النظام المركزي ولم تعد تعنيها أنظمة الحكم القائمة بشيء. هذا طبعاً يمثل الوصفة السحرية لمشاريع التجزئة في المنطقة.

طبعاً هذه الخلاصات هي من نتائج أفعال الأنظمة والدول الكبيرة في المنطقة التي لم تُنهِ مشكلة القوميات عندها على رغم انقضاء عقود من تشكّلها العمري. تركيا التي خلفت الإمبراطورية العثمانية ما كانت لتعجز عن تصفير أزماتها الداخلية والتصالح مع الأرمن والأكراد بدل الاستقواء عليهم، والعراق كان عليه أن لا ينتشي بإسقاط صدام حسين بالآلة الأميركية ليهمّش السنة ويُخيف الأكراد ويستقوي بإيران عليهم، وسورية كان عليها أن تعطي الأكراد حق التكلم وتعليم لغتهم الأم وإشعارهم بالوطنية الســـورية لكي لا يستغلوا اللحظة المناســبة للانفصال، وإيران التي أعلنت هويتها الدينية ووضعت كل الآخرين، قوميات وطوائف، في جهة مقابلة إنما ارتكبت الإثم ذاته. لا يشعر الأكراد بالوطنية في أي مكان من تلك الدول، لأنها مُصادَرة في إطار فئوي يتلطى بالقومية كواحد من أطر الغلبة والهيمنة والتحكّم، فالقومية لا تعني اضطهاد الفئات المنتمية إلى الجغرافيا بحدودها الرسمية.

هذه المرحلة قد تسمح بإعادة التموضع ورسم العلاقات بين الجميع لأن كل القوى الدولية والإقليمية حاضرة على المائدة، أي موجودة على بقعة جغرافية واحدة تحمل كل تلك المتناقضات. إنها لحظة تاريخية للأكراد ولغيرهم لكي يرسموا أطراً مناسبة لحضورهم السياسي في حدود المصالح الدولية. فهذه الوضعية الاستراتيجية قد لا تتكرر كفرصة تاريخية.

ينظر العرب هذه المرة الى مسألة نشوء كيان كردي من منظور يختلف عن منطلق القومية العربية الذي رفعته أنظمة حافظ الأسد وصدام حسين بوجه الأكراد واستظل به الأتراك والإيرانيون. رد فعل إيران وتركيا وتهديدهما بالتدخل العسكري للحفاظ على وحدة العراق فاقما مشاعر التعاطف مع كردستان ككيان سيقف بوجه شطط الطائفية والتبعيّة، فطالما أن الطائفية مزّقت العراق كدولة وحوّلته إلى جماعات فكم بَعدُ تعني العروبة وحدة أراضي هذا العراق! إن السؤال عن الجغرافيا القومية لا بد أن يتلازم مع خيارات الناس وعقدهم الاجتماعي وتفاهماتهم الميثاقية وإلا ماذا تعني السيطرة القومية للجغرافيا أكثر من قمع الأكثرية للأقلية أو العكس.

أكثر ما يمكن استخلاصه من استفتاء كردستان هو أن الجغرافيا عندما تنكشف إنما تكشف معها مفاهيم مُلازمة تتعلق بالخيارات التقليدية للفئات التي تبحث عن الأمان في النظام السياسي الذي يحدّد العلاقة الطوعية بين الناس، وليس في الجغرافيا المفروضة التي تدفن أحلامهم وطموحاتهم كبشر.

 

المصدر: الحياة

التعليقات مغلقة.