أبناء «شحّاذ السليمانيّة»

44

شورش درويش

فيما كان الكرد يشدّون أعلامهم إلى الصواري، وبينما كانوا يهزجون ويبتسمون للكاميرات ويُعدّون الساحات والملاعب للاحتفال بيوم الاستفتاء، كان ثمّة من يعدُّ العدّة للاقتصاص من هذا المسلك الكردي الذي ينم عن العصيان والخروج عن بيت الطاعة، وهي بيوت طاعة في الواقع:

فالبيت العربي سارع إلى عقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب رفضاً للاستفتاء وما سينجم عنه من تمزيق لتراب الأمة العربية، فيما اختار البيت التركي وبلسان رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان أقذع الصفات ليلصقها بالكرد وقياداتهم السياسيّة، ثم صوّب مدافعه صوب أربيل وحشد عساكره على التخوم الفاصلة بين تركيا وكردستان العراق، ولوّح بوقف «صنبور» التجارة الذي يغذّي الإقليم بالمواد والحاجات الحياتيّة تهديداً بالتجويع، ليعبّر بلغةٍ لا تحتمل التأويل عن أن موقفه هذا مبنيّ على استيائه من رفع الأعلام الإسرائيلية، بينما الأعلام ذاتها مرفوعةٌ لا تنكّس في أنقرة!

 

وفي المقلب الإيراني كان الحديث الرسميّ مطابقاً لما قيل في العواصم العربية وفي أنقرة، وفوق ذلك نطقت الوكالات الإيرانية في لبنان واليمن بلسان سفراء الولي الفقيه، حسن نصر الله وعبد الملك الحوثي، بأن ما يحدث في «شمال العراق» هو «مؤامرة صهيونيّة أميركية» لتفتيت الأمّة.

 

تروي الأجهزة الإعلامية الناطقة بالعربية والتركية والفارسيّة، ودائماً عبر خبراء ومحلّلين وساسة، عن الكرد، أنّهم قصّر في فهم طبيعة العلاقات الدوليّة وشبكات المصالح، وأنّهم لم يعتبروا بالتاريخ حيث نكث الغرب بعهوده تجاههم، وأن ما من مصلحةٍ للكرد في الاستقلال وأن البقاء في هذا العراق على علله أفيد لهم من الانفصال ومواجهة مصيرهم المتمثّل بالحروب والتجويع. وإذا كان ثمة قولٌ في ما خصّ التهديد والوعيد فليكن كالتالي: أنه لا أخلاق البتّة حين تصبح التهديدات بالحروب والتجويع لغةً بديلة عن الترغيب والاستمالة، وكأن أول العلاج للمشكلة الكردية، وليس آخره، هو الكيّ.

 

تعامل الغرب مع الاستفتاء ونتيجته بمنطق القانون الدولي وألاعيبه، وهو منطق حمّال أوجه، ليختار الوجه الذي يناسبه. فالقانون الدولي يقرّ بحق تقرير المصير، لكنه في المقابل يقرّ بوحدة وسلامة أراضي الدول، ليأتي الموقف الغربي بالتالي منسوجاً من القماشة التي يختارها وفقاً لمصالحه، فهو يرفض تقسيم العراق، ويؤيّد الحوار بين بغداد وأربيل، ويخشى تبديد الجهود المبذولة لأجل محاربة داعش، لكنه لا يقلل من قيمة الكرد ولا يرفض حقهم كبشرٍ متساوين مع غيرهم ولا يرى حاجةً إلى فرض الحصار أو الحرب عليهم، بالتالي يبقى التفوّق الغربي في هذه النقطة أهم العوامل الجاذبة ليصطف الكرد إلى جانب الغرب ويعوّلوا عليه حتى وإن قال: لا لاستقلال كردستان. وذلك على عكس موقف الحكومات المحيطة بكردستان والتي يصح فيها القول إنها نابذة ولا تجتذب الكردي في شيء لسببٍ بسيط: أنها تجرّده من أبسط القيم والحقوق الإنسانية، وفوق ذاك ترمي إلى تجويعه وشن حروب عليه.

 

تشريح الموقف الكردي تجاه الغرب وإسرائيل مبنيٌّ على شكل تعاطيهما الأسمى مع القضية الكردية، قياساً بمواقف دول جوارهم، أي أن الكرد في حالة مفاضلة بين غرب سيء وجوار أسوأ، ولا يجب إغفال أنهم في هذا الصدد يتعاملون بمنطق «النكاية» حين يرفعون الأعلام الإسرائيلية أو عندما يتحلّقون حول مثقفين وصحافيين غربيين يؤيدونهم في مسعاهم. والنكاية في العموم هي وسيلةٌ بدائية في التعبير، لكنها على نحوٍ ما إحدى وسائل المظلوم في بثّ شكواه وإبداء التحدي ليس إلّا.

 

ينقل الكاتب الصحافي الأميركي جوناثان راندل في مؤلَّفه «أمّة في شقاق» عبارةً للملّا مصطفى البارزاني بالغة الدلالة والإيجاز جواباً عن وفد من النساء الفلسطينيات كنَّ قد التقين به وعبن على الكرد تعاملهم مع إسرائيل. يقول «قائد الثورة الكردية» مبرّراً المسالك الكردية تلك ودافعاً بالشبهات التي نسجت حول الثورة الكردية وخطوط إمدادها: «أنا مثل الشحّاذ الأعمى الواقف عند باب الجامع الكبير في السليمانيّة، والعاجز عن رؤية من يضع في يده الممدودة، قطعةً نقديّة». هذا المثال على ما يحويه من مرارة وخيبة شعر بها البارزاني الأب تكاد تكون هي المرارة والخيبة التي يمضغها الآن قرابة 93 في المئة ممن صوتوا بنعم للاستقلال، وهم في مواجهة آلة تبثّ خطب الكراهية والفوقية والحط من شأن الكردي، وفي مواجهة آلاف اللاءات التي تنهال عليهم صباح مساء.

 

والحال، بات الكرد أشبه بالعميان في مثال البارزاني، وهم في هذه الغضون أشبه بأبناءٍ لشحّاذ السليمانيّة الذين لا ينظرون إلى المحسن بقدر ما ينظرون إلى الحسنة وبمعزلٍ عن اليد التي تقدّمها.

 

المصدر: الحياة

التعليقات مغلقة.