من برشلونة إلى أربيل
غسان شربل
جاري البريطاني متوتر منذ أيام. يتابع الصحف وينقب في الشاشات والمواقع الإلكترونية. يشم رائحة كارثة مقتربة. نسي «بريكست» وأوجاعه الحاضرة والمقبلة. وتجاهل مؤتمر حزب المحافظين والخناجر المخبأة خلف الابتسامات. تشغله قضية أكبر وأخطر. ماذا سيحل بفريق برشلونة إذا انتهى الاستفتاء (البارحة) بإعلان استقلال كاتالونيا؟ سيكون الأمر كارثياً. سيغيب النادي العريق عن الدوري الإسباني المرصع بانتصاراته. سيغيب أيضاً عن الدوري الأوروبي الذي رسخ ألقه.
وجاري جدي جداً. لا يعتقد أن من حق حفنة من السياسيين الكاتالونيين أن يقامروا بمصير نادٍ يعتبر وساماً في تاريخهم المعاصر. لا يقر أيضاً للمقترعين أنفسهم بحق تهديد مصير قصة نجاح. هذه القصة لم تعد ملك المدينة أو الإقليم. إنها ملك من أحبوا رؤية «الجنرالات» الذين حملوا راية النادي ودفعوا المستديرة الساحرة إلى شباك الآخرين. قال الرجل إن على الشعوب ألا تُصاب بالتوتر القومي والشعبوي كلما فتحت صناديق الاقتراع، وأنَّ على الكاتالونيين أن يتذكروا أن بعض من صنعوا نجاح نادي برشلونة جاءوا من جنسيات أخرى ومن تحت أعلام أخرى.
حاولت أن ألفته إلى أن المسألة أخطر من مصير نادٍ. قال إنه ليس خائفاً على هذا الصعيد. الأوروبيون طلقوا عادة الحرب الأهلية ورسم الحدود بالدم. الانفجار اليوغوسلافي كان حادثاً عارضاً واستثنائياً. استوعبت مؤسسات القارة القديمة حدثاً بحجم حرب عالمية هو اندحار الاتحاد السوفياتي وفراره إلى غبار المتاحف. ثم إن الوقائع الاقتصادية لن تتأخر في تبريد الرؤوس الحامية وتفكيك هالة الشعبويين.
لا يعتقد جاري أن كاتالونيا ستقفز من القطار الإسباني الذي تستقله منذ خمسة قرون. محاولاتها السابقة لم يكتب لها النجاح. ثم إنها في وضع تحسد عليه. إنها الأفضل بين المقاطعات الإسبانية. تبدو مميزة إذا قورنت أيضاً بمثيلاتها في أوروبا. اختلافها القومي لا يحتاج إلى تأكيد. نجاحاتها واضحة صناعياً ومالياً وسياحياً. ثقافتها ليست مهددة. وعاصمتها برشلونة من جواهر التاج الأوروبي ومن الأكثر دينامية بين مدن القارة اقتصادياً وثقافياً.
تبدو قصة كاتالونيا غريبة فعلاً. هل استيقظت لدى أهاليها تلك الجروح القديمة لتلتقي اليوم بمشاعر العداء للمؤسسة المركزية وبصعود الشعبويين وامتلاكهم قدرة استثنائية على التأثير عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل ساهمت العولمة في إيقاظ الهويات الصغيرة وهذا الميل إلى العزلة والاستقالة من الأطر التي لا تحمل بصمة واحدة ولوناً واحداً؟ وهل هي الرياح نفسها التي هبت على كيبيك واسكوتلندا والتي ستعاود الهبوب على إقليم الباسك الإسباني إذا نفضت كاتالونيا يديها من الإقامة في البيت الإسباني؟
يستطيع الكاتالونيون التذرع بأن الشرعية الدولية تحدثت عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. لكن الواضح هو أن هذا الحق إنما سجل لدعم شعب يرزح تحت الاحتلال أو أقلية مهددة بالإبادة على يد سلطة مستبدة دموية. هذا لا ينطبق بالتأكيد على وضع كاتالونيا الحالي. طبعاً لا يمكن إنكار أن إسبانيا فرنكو أضعفت صوت الكاتالونيين وحاصرت لغتهم وثقافتهم، لكن فرنكو غارق الآن في مقابر التاريخ مع قراراته وارتكاباته.
لكل قومية أو مجموعة جروح تركها التاريخ تحت جلدها أو في أنفاق الروح. لكن كاتالونيا لا تستطيع التحدث عن عذابات استثنائية في العقود الماضية. لا تستطيع مثلاً التحدث كإقليم كردستان عن عمليات الأنفال التي أدّت إلى مقتل 180 ألف شخص وتدمير الكثير من القرى. وليس لدى برشلونة قصة ترويها من قماشة قصة حلبجة التي تعرضت لـ«ضربة خاصة» بناءً على نصيحة «علي الكيماوي». والأكيد أن مدريد لم تقم بوقف رواتب إقليم كاتالونيا ولن تفعل. ومن حسن حظها أنها لا تحمل مثل هذه الجروح والقروح.
أوروبا شيء والشرق الأوسط الرهيب شيء آخر. نحن في الجزء الأكثر هشاشة من العالم. نشرب من منابع الخوف ونسقي أطفالنا. خرائطنا هشة. ودولنا هشة. ودساتيرنا كرتونية. إذا اقتلعت الرياح المستبد حارس الخريطة ومفخخها تتناثر البلاد ميليشيات ميليشيات.
كلما لفظ زعيم كردي كلمة الدولة المستقلة اندلع الزلزال. مناورات عسكرية على الحدود. وخوف من السابقة وتهور الأقليات المشابهة. قرع طبول ورائحة حروب.
البارحة، حدّق الخبراء الأوروبيون بالاستفتاء الكاتالوني. قالوا بوضوح إن إعلان استقلال كاتالونيا لن يؤدي في حال حدوثه إلى قيام دولة مستقلة. مدريد تعتبر الاستفتاء غير شرعي وغير قانوني. الدول الأوروبية لن تعترف بأي كيان ينبثق منه. القوة ليست حلاً في مواجهة ملايين المقترعين. القوة تصبّ ماءً في طاحونة المتطرفين. الخيار الوحيد هو الحوار. بعض الخبراء يعتقد أن إنقاذ وحدة إسبانيا يستحق الذهاب إلى صيغ أخرى ربما تكون الكونفدرالية بينها.
أغلب الظن أن حيدر العبادي ومسعود بارزاني تابعا أمس مجريات الاستفتاء الكاتالوني. يعرف الرجلان أن ثقافتنا لا تؤمن كثيراً برقصة التانغو، حيث على كل راقص أن يضبط حركاته على حركات شريكه. يعرفان أن ثقافتنا لا تسهل الزواج المتكافئ ولا تبيح الطلاق المخملي. ومع ذلك لا جدوى من قرع الطبول وتلميع الخناجر. يكفي العراق ما عاناه. يكفي الأكراد ما عانوه. لا بدّ من طاولة وأفكار جريئة خلاقة. يستحق إنقاذ العراق البحث في خيارات كثيرة قد تكون الكونفدرالية بينها.
القصة في كاتالونيا أبعد من مباراة بين فريق برشلونة وريال مدريد. والقصة في العراق أبعد من عضّ الأصابع بين أربيل وبغداد. الإقرار بفشل التعايش خطوة قاتلة على حدود الدول وداخلها. لا بدّ من إنقاذ التعايش حتى ولو استلزم قرارات مؤلمة. لم يفت الأوان بعد لا في مدريد وبرشلونة ولا في بغداد وأربيل.
المصدر: الشرق الأوسط
التعليقات مغلقة.