حلم منع قيام الدولة الكردية المستحيلة في العراق
علي العائد
بعد ساعات من بداية استفتاء إقليم كردستان العراق على حق تقرير المصير، اجتمع البرلمان العراقي ليعلن قرارات هي بمثابة إعلان حرب، وليست مجرد عقوبات أو إجراءات تحذيرية.
سبب هذا التزامن فقدان الأمل في رضوخ رئيس الإقليم لضغوط بغداد وتأجيل الاستفتاء، فاتخذ البرلمان العراقي قرارات تحولت تلقائيا إلى إجراءات من باب الشعور بالغيظ ليس إلا.
وللتذكير، فالحركة الكردية في إيران وتركيا والعراق جُوبهت بقوة السلاح والإعدامات، أو الاعتقال في أقل تقدير، في حين كان أكراد سوريا الأقل تعرضا لتجارب دموية من أخوتهم في الدول المذكورة، دون التقليل من أثر حرمانهم من حقوقهم المدنية، وحرمان عدد كبير منهم من الجنسية السورية، بغض النظر عن مبررات وتفاصيل نتـائج إحصـاء عـام 1962 في محافظة الحسكة.
لكن، في مقابل تجارب الأكراد في إيران وتركيا وسوريا، كان إقليم كردستان العراق صاحب تجربة سياسية مديدة نسبياً تخللتها حروب وقمع ومجازر، على خلاف التأخر الكبير لهذه التجربة لدى أقرانهم، فيما يحاول أكراد سوريا اتباع تجربة خاصة بهم انطلقت مع تباشير الثورة السورية في ربيع عام 2011، واختارت استغلال الفرصة التاريخية للفوضى على خلفية الثورة، والاسترشاد بتجربة حزب العمال الكردستاني في تركيا بحمل السلاح في أول خطوة للمطالبة بحقوقهم.
أي أن أكراد سوريا لم ينطلقوا من الصفر، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري مرتبط بتجربة حزب العمال الكردستاني التركي، وكل ما يمكن أن يقال حول ذلك موجودة أسراره في صناديق جبال قنديل، كمكان استراتيجي ذي مكانة رمزية للحركة الكردية في تركيا على الأقل، دون وجود ما يمنع الاعتقاد أن تلك الجبال قد تخطط لكردستان واحدة من إيران شرقا، إلى سوريا غربا، مرورا بالعراق وتركيا.
خبرة أكراد تركيا العسكرية المكتسبة بالدم منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين مثّلت نقلة كبيرة في إعادة وضع القضية الكردية على منصة السياسة الدولية في منطقة لا تحتاج إلى مزيد من التوتر. لكن “زيادة الخير خير” في منطق صانعي التوترات الدولية في الشرق الأوسط، من باب خلط الأوراق، أو إعادة خلطها، في كل مرة قد تبدو فيها المنطقة متجهة إلى السلام.
بطبيعة الحال، تبدو إسرائيل في قلب هذه “الخلطة”، أو هي المبرر لإعادة خلط الأوراق، حتى دون التطرق إلى تكرار رفع العلم الإسرائيلي في تظاهرات كردية في أوروبا خاصة، ودون التطرق إلى تبرؤ كثير من الأكراد من فكرة الربط بين الكيان الوظيفي الإسرائيلي المزروع في قلب العالم العربي، وفكرة حق الأكراد في تقرير المصير كأكبر قومية في العالم بلا دولة.
الآن، يمكن الإشارة إلى التزامن بين استفتاء تقرير المصير في كردستان العراق، وانتخابات الإدارة الذاتية في غرب كردستان، بفارق ثلاثة أيام بين الحدثين. هناك، في العراق، تجربة عمرها 47 عام من الحكم الذاتي، بينما لا يتجاوز عمر الإدارة الذاتية في “كانتونات الجزيرة وكوباني وعفرين” الأربع سنوات.
مبدئيا، لا يوجد ترابط تاريخي بين “نضال” الأكراد هنا وهناك، باستثناء المد العاطفي الذي لا يمكن لأحد أن ينكره أو يستنكره، حتى بين الأحزاب الكردية غير المتفقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، كقوة مسيطرة في الكانتونات الكردية السورية.
لكن الاستقلال النسبي لأكراد العراق عن تجربة حزب العمال الكردستاني تعطيهم خصوصية داخل “الحركة الكردية”، إن كان ثمة حركة كردية واحدة في الدول الأربع، على عكس التجربة الكردية السورية الوليدة كاملة الارتباط علنا بحزب العمال الكردستاني، سياسيا وعسكريا، ففي الانتخابات التي جرت منذ أيام في تل أبيض، كمقاطعة تابعة لكانتون “عين العرب- كوباني”، رفع الأكراد في المنطقة صور عبدالله أوجلان، المعتقل في جزيرة إيمرالي التركية، كأب روحي لطيف من أكراد سوريا.
وصالح مسلم نفسه، كزعيم لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري هو عضو في حزب العمال الكردستاني، صرّح في اجتماعات جماهيرية أن “ثورة غرب كردستان” تسترشد بأفكار عبدالله أوجلان.
هذا يعني وجود افتراق جوهري بين التجربتين العراقية والسورية، فأكراد العراق لهم زعامتهم التاريخية التقليدية في الملا مصطفى البارزاني، وابنه رئيس الإقليم الحالي مسعود البارزاني، بينما لا يمثل صالح مسلم سوى واجهة لزعامة مرجعها أوجلان، دون حاجة هنا للتذكير بعلاقة الأب الروحي لأكراد تركيا بنظام حافظ الأسد حتى شهور ما قبل اعتقال المخابرات التركية عبدالله أوجلان (آبو) في كينيا، واقتياده إلى زنزانة منفردة في سجن جزيرة إيمرالي قبل أكثر من 18 عاماً.
في كردستان العراق، حقق الإقليم نجاحات كبيرة في السياسة، بعد صراع عسكري مديد مع السلطة المركزية في العراق. وحاول قادة الإقليم استغلال ظروف الفوضى هناك ما بعد 2003، لكن الظرف الإقليمي والدولي لم يكن مشجعاً وقتها لاتخاذ خطوة إعلان الدولة.
الآن، لا أهمية فورية لنتائج استفتاء كردستان العراق، حتى لو صوَّت كل المشاركين من سكان الإقليم لصالح الاستقلال. المهم هو الاستقلال نفسه، والإجراءات العملية لترسيم الحدود، واقتسام الموارد، وحل النزاع حول كركوك، ومناطق أخرى متنازع عليها.
وعليه، فإن قادة الإقليم الكردي العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي منذ بداية سبعينات القرن الماضي، دون أن يجرؤوا على اتخاذ خطوات عملية لإعلان استقلالهم الكياني من طرف واحد، ينظرون الآن، وقبل كل شيء، إلى مسألة الموارد ومسألة الاعتراف.
هنا، نشير إلى أنه سبق وأجرت سلطات الإقليم استفتاء على حق تقرير المصير عام 2005، وصوَّت 98.8 في المئة من المشاركين في الاستفتاء لصالح انفصال كردستان وتأسيس كيان مستقل، بينما تم إلغاء استفتاء كان مقررا عام 2007، لخلافات مع الحكومة المركزية في بغداد، ونصائح من الدول الفاعلة بعدم التعجل في الخطوة.
هذه المرة ستكون نتيجة الاستفتاء مشابهة لاستفتاء 2005، حتى لو تدنت النتيجة إلى 65 في المئة من المؤيدين للانفصال، نتيجة المقاطعة السياسية لقرار الاستفتاء من حزب جلال الطالباني، الاتحاد الوطني الكردستاني، ومن التركمان والعرب. لكن النتيجة ستكون ورقة مهمة في يد قادة الجناح البارزاني، أو “إعلان نية”، حسب رئيس الإقليم، مسعود البارزاني. وهذا الإعلان سيتم التفاوض عليه آجلاً بإجراء استفتاء آخر أو من دونه، للوصول إلى استقلال كامل للإقليم، ووضع عبارة العراق الموحد في أرشيف المكتبات.
ومن المعلوم أن الحزبين الرئيسين في الإقليم: الاتحاد الديمقراطي، والاتحاد الوطني يتقاسمان الجيش “البيشمركة” والاقتصاد والمناصب وبرلمان الإقليم، وهذا ما يطرح إمكانية انقسام داخل الإقليم، خاصة أن التنازع بينهما مسبوق بعد نشوب حروب حقيقية بينهما في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي وفي منتصفه.
أما “إعلان النية” الكردي الذي ستقوله نتيجة الاستفتاء فيشبه إلى حد كبير “وثيقة إعلان قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس”، الشهير بإعلان الجزائر في 15 نوفمبر 1988، حيث لا تزال الدولة الفلسطينية محل تفاوض بعد مرور ما يقرب من 30 سنة، اختبر فيها الفلسطينيون مرحلة المصافحات، وأقبية أوسلو، تزامناً مع الانتفاضة الأولى، ومرورا بانتفاضة الأقصى، والجدار العنصري الإسرائيلي العازل، وانسحاب إسرائيلي من غزة، والانقسام الفلسطيني في جناحي فلسطين على ما تبقى من أراضي ما بعد حرب 1967.
تجربة إقليم كردستان واستفتاء الاثنين لا يشبه ردة الفعل الفلسطينية على تخاذل عربي جعل القضية الفلسطينية تغيب لأول مرة عن جدول أعمال مؤتمر القمة الطارئ لجامعة الدول العربية في عمَّان في 8 نوفمبر 1987. ردة الفعل الفلسطينية وقتها كانت انتفاضة شعبية انطلقت بعد شهر واحد من القمة، ثم انتفاضة سياسية تمثلت بـ“إعلان الجزائر” بعد عام تقريباً من ذلك التاريخ.
أما الفعل الكردي في العراق فيحاول بعض غلاة الأكراد جرَّه للتشبه بقيام إسرائيل نفسها، في محاولة للقول إن القوة وحدها من تحقق لهم حلم الدولة، على الرغم من تأكدهم أن “دولة إسرائيل” ستبقى كيانا خائفا من محيطها حتى مع الاختلال الكبير في القوة لمصلحتها بالمقارنة مع جيرانها العرب الذين يزدادون ضعفا.
المصدر: العرب اللندنية
التعليقات مغلقة.