الفدرالية خطوة في الاتجاه الصحيح…والصعب!

40

 

شورش درويش

 

خضعت سورية عبر تاريخها المعاصر، تحديداً منذ العام  1920 تاريخ فرض الانتداب الفرنسي عليها وحتى أوقات متأخّرة،  إلى سلسلة من التحوّلات والتغيّرات الإدارية التي قامت بها سلطة الانتداب ثم التي قام بها السوريّون أنفسهم، لكن  أبرز تلك التحوّلات الإدارية حدثت إبان فترة الانتداب أو مرحلة الإعداد للانتداب، ففي مخطّط تنظيم الانتداب الفرنسي في سورية، أبرق الرئيس الفرنسي ميلّران إلى المندوب السامي الجنرال غورو بتاريخ 6 آب (أغسطس) 1920 يقترح خلالها عليه ” سلسلة دول مستقلّة، جمهورية الشكل، تتناسب والأعراف والديانات والحضارات، وتتحد في فدراليّة تحت السلطة العليا للمفوّض السامي…”، ليبدأ ميلّران بالشكل المقترح بــ ” البلاد التركية والكردية ” وما يهم هنا هو ” البلاد الكردية” حيث يرى ميلّران أنه لا يمكن السيطرة على المناطق الكردية إلّا ” بالقوّة” ، وأن الفدرالية التي قد تحدث لا يجب أن تقع على الأراضي التركية أو الكردية لأنها ” تفتقد إلى أي رابطة قومية مع سورية” ثم يستأنف القول بوجوب “تعديل رسم الحدود كي لا تقسّم قبيلة الملّي إلى قسمين ” و ” إن مثل هذا الوفاق مع الأكراد … يضعانا في وضع سياسي مثالي حيال كردستان “.

 

 

بَيْد أن واقع الحال أدى إلى ترك جيوب كردية في داخل سورية؛ فبقيت القبائل الكردية مقسمة على جانبي الحدود على عكس ما أرادته فرنسا في بداية الأمر، تلك الحدود التي أعادت فرنسا رسمها مراراً مع تركيا وفق الاتفاقات المتكررة والتي بموجبها تنازلت فرنسا عن الكثير من الأراضي في العمق الكردي داخل تركيا لصالح تركيا لتبقى المناطق الكردية بهذا الشكل الذي بقيت عليه في مناطق الجزيرة وكوباني وكرداغ (عفرين)، كذلك مضت فرنسا إلى إقامة دويلات سورية ( العلويين – الدروز – الشام – حلب) على الفور ولم تراع المصالح الكردية فبقيت المناطق الكردية جزءاً من دويلة حلب، وعلى الرغم من ذلك لم تهدأ النخب الكردية إلى جوار بعض المتنفّذين السريان  وزعماء العشائر العربيّة في المطالبة بالمساواة مع بقية الدويلات السورية (الفدراليات) عبر المطالبة بتشكيل إقليم خاص في منطقة الجزيرة إلى جوار بعض الشخصيات السريانية والعربية.

 

 

فشل نظام الدويلات لاعتباراتٍ عديدة ولعلّ أهمها أنه كان مفروضاً من فوق، ولم يكن برضا ووفق مصالح المحكومين، فلم يراعي الكثير من الجوانب الفنية والإدارية ومصالح الوطنيين السوريين، الأمر الذي شكّل نكسة أولى لمشروع الفدرالية وإمكانية أن يشكّل نمط (سيستم) حكم إداري حقيقي، فالمشروع الفرنسي لم يكن مقاماً لأجل تقليص الحكم المركزي، أو تخفيف الأعباء عن المركز أو توزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم، بقدر ما كان جزءً من صيغة استعمارية في الحكم ترتكز على واقع أقوامي (إثني) والفصل بين المكونات والأقليات لأجل سهولة التحكّم بالبلاد المستعمرة أو المنتدبة.

 

عانى كرد سورية على مدى عقود طويلة وفي ظل الحكومات المتعاقبة، وتحديداً منذ بداية عهد الوحدة السورية – المصريّة فلاحقاً، من تغوّل سلطة المركز وتحكمه بتضاعيف الأمور في مختلف أنحاء سورية، ومن فرض سياسات تمييزية تجاه المواطنين الكرد، ولعل ملّف اضطهاد الكرد بات غنيّاً عن التعريف ابتداءً من فكرة ” الإبادة الثقافية ” المتمثّلة بإمحاء الهوية الكردية وتشويهها وإنكارها، وصولاً إلى عدم الاعتراف بالوجود الكردي كشعب شريك للعرب والسريان في سورية وأحد أكبر الإثنيات المساهمة في بناء سورية والدفاع عنها، إلى آخر السياسات الإقصائية والمتعالية.

 

 

أفسحت الأزمة السوريّة لكرد سورية الفرصة العادلة للتعبير عن خصوصيتهم، والبحث عن إمكانية بناء كيان وطني داخلي، فباتت والحال هذه، مسألة تطوير نمط حكم محلّي أبرز المحطّات التي وقف عليها كرد سوريا، ابتداءً من أطروحات “الإدارة الذاتية”  وملئ الفراغ الناجم عن غياب السلطة وصولاً إلى مرحلة إعلان الفدرالية في روج آفا وشمال سورية، هذه الأخيرة تمثّل أهم مراحل التطوّر المتسارع في السنوات الأخيرة التي بلغها كرد سورية، فاللامركزية بمختلف تجلياتها ( الإدارة الذاتية – الحكم الذاتي – الفدرالية ) هي إحدى الوسائل الكفيلة للحفاظ على وحدة التراب السوري، والتأسيس لشراكة حقيقية بين شعوب المنطقة، وبما يخفف من السياسات المركزية التي يُخشى من أن تعود إلى سابق عهدها في فرض سياسات اللون الواحد والقومية الواحدة أو حتى الديانة أو المذهب الواحد .

 

 

في الميزان، هناك تجربة عيش مشترك في الشمال السوري عمرها من عمر الدولة السوريّة، ونمط جديد من الحياة السياسية والإدارية لم يعهدها الكرد والعرب والسريان، تجربة جديدة قابلة للعيش والتقدّم لكن ضمن شروطٍ قاسية، وما إعلان مشروع الفدرالية في روج آفا وشمال سورية إلّا مقدّمة سليمة تجسّد مفهومي الثقة بالذات والقدرة على المبادرة، فصحيحٌ أن المشروع مطروح من قبل الإدارة الذاتية وبمعزل عن توافقٍ سوري عام، إلّا أنه يعكس إرادة أبناء الحيّز المكاني، وهو حق للسكان المحليين في العيش وفق ما يختارونه هم.

 

 

لا شك أن الفدرالية التي قد يصحّ تسميتها بفدرالية الأمر الواقع ( دو فاكتو)، صادرة من قبل طرفٍ واحد، إلّا أنها تمثل وبمعزل عن القائمين عليها، أبرز تطلعات كرد سورية، وصحيحٌ كذلك أنها ستتعرض إلى رفضٍ أو ربما اعتداءٍ إقليمي أو من الحكومة المركزية، وكذلك قد لا تواجه حماسةٍ وتشجيعاً دوليين، إلّا أن الثابت هنا هو الإصرار على المضي في المشروع حتى آخره، والخوض في سياسات أكثر حكمة تساهم في رأب الصدع الكردي – الكردي، وتقلل من المخاوف العربية من فكرة التقسيم المسيئة للمشروع.

 

 

يبقى القول، أنه خلال أكثر من مئة عام على اتفاقية سايكس – بيكو، والمنطقة تشهد تغيّرات سياسيّة وجغرافية واقتصادية عميقة، وأن الغبن الذي لحق بالكرد لا بد وأن يصحّح فإن لم يكن بيد الحكومات، فليكن بأيادي السكان الكرد وشركائهم في الحيز المكاني الذي كتب عليهم أن يعيشوا عليه ما تيسّر، ودائماً عبر سياسات الوفاق والعيش المشترك والسلم الأهلي، ويبقى القول أيضاً، أنّ المشاريع التي تخرج من تحت أي من قبل المحكومين وبتراضيهم قد يكتب لها النجاح على عكس تلك التي تفرض من فوق كما في حالة الفدراليات التي أنشأتها فرنسا يوماً ما.

 

 

وعليه، يمكن القول أن فدرالية شمال سورية وروج آفا خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكنها في الاتجاه الصعب كذلك .

 

كاتب كردي سوري

 

 

 

التعليقات مغلقة.