المواطنة والتعدّدية كُردستانياً ..تقاربٌ في الرؤى

69

جاندي خالدي

“أعتقد أنّ القيادات الكُردية الحالية في كلٍّ من كردستانَي سوريا والعراق اقتنعت تماماً بفكرة الدولة الحديثة أو دولة المواطنة التي تعترف بحقوق كل إنسان يعيش على أرضها”

أفرزت مقدمات الاستفتاء على استقلال إقليم كُردستان من العراق و المزمع إجراؤه في الخامس والعشرين من أيلول عن خطابٍ سياسيٍ متطوِّر تجاه المكوِّنات المتعايشة والموجودة على أراضيها، وبشكلٍ جديد يبتعد عن الصبغة القومية للدولة ويقترب أكثر للتوجّه إلى دولة المواطنة.

تصريحات السيد مسعود البارزاني الأخيرة والمتعلقة بضرورة تثبيت ما يوحي لوجود المكوِّنات الأخرى في النشيد والعلم الكردستانيين تحمل في طيّاتها الكثير من الأهداف والقراءات المتأنية للواقع الحالي، وتعتبر نتيجة تاريخية لما عاناه الكُرد في الأجزاء الأربعة من كردستان خلال مسيرتهم الطويلة وصراعهم مع الأنظمة المقتِسمة لأراضيها،  فكُردستان تحوي العديد من المكوِّنات الإثنية والعرقية والمذهبية والتي نجحت تجربة الإقليم – منذ سقوط حكم نظام صدام حسين في العراق – في إرساء مفاهيم التعايش السلمي وتثبيت وجود وحقوق هذه المكوِّنات في المجتمع الكُردستاني.

وعلى الرغم من معاناة الإقليم مؤخَّراً بعد دخول داعش والمعارك الناشبة هناك وسقوط العديد من الشهداء فيما يتعلّق بمشكلة الديمقراطية ورئاسة البرلمان والخلافات السياسية والأزمة الاقتصادية، إلا أنّ الاستفتاء الذي أصبح أمراً مبتوتاً حسب ما أكّد البارزاني مراراً وتكراراً، قد يكون السبيل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة ومن نتائج الأزمة التي يعيشها الإقليم.

في المقابل فإنّ مجلس سوريا الديمقراطية أعلن موعداً لانتخابات النظام الفيدرالي لشمال سوريا، وكشفت عن التقسيمات الإدارية للأقاليم والمقاطعات تزامناً مع موعد الاستفتاء في الإقليم في مشهدٍ يُوحي بالارتباط العضوي فيما بين جزأين من كُردستان أو على أقل تقدير قراءة  متقاربة ومنسجمة فيما بين القيادتين للتطورات الجيوسياسية التي تعيشها المنطقة وسريانها بشكلٍ متوافق مع اختلافات في ظروفهما وعلاقاتهما.

وكحالة تعتبر استثنائية اتفق كلا النظام السوري والمعارضة لأول مرة  منذ بدء الأزمة السورية عام 2011م على رفضهم العلني لمشروع الفيدرالية في سوريا الذي يتم اعتباره كمشروع انفصالي هدفه تقسيم سوريا، فيما يعتبره المجلس الوطني الكُردي الذي يدعو إلى الفيدرالية أيضاً – مشروعاً غير قومي ولا يحمل الصبغة الكُردية القومية، في تعارضٍ محيِّر ما بين الرؤيتين المتضادتين.

وعلى الرغم من التشابه في الحالتين الكُردية العراقية منها والسورية  فيما يتعلق بالرفض الداخلي لمشروعي الاستفتاء والفيدرالية في إطار الدولتين، إلا أن مواقف الدول الإقليمية تختلف في الحالتين.. فالمجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية لم يرفض عملية الاستفتاء باعتبار أن حق تقرير المصير مصون ومنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة الملزم للدول الأعضاء فيها، لكنها طلبت تأجيله على مضض، الأمر الذي رفضته القيادة الكُردستانية.

الدول الإقليمية إيران وسوريا أعلنت رفضها إلى جانب العراق لعملية الاستفتاء، الأمر الذي اعتبرته القيادات الكُردية متوقعاً وداخلاً في الحسابات الإقليمية المعقدة فيما يتعلّق بالقضية الكُردية.

تركيا أيضاً وعلى لسان رئيس وزرائها بن علي يلدريم اعتبرت إجراء الاستفتاء عملية ” غير مقبولة ” في الوقت الذي كانت فيه التصريحات التركية بداية العام الماضي أكثر إيجابيةً.

 

هذا التعارض في الآراء والأوضاع الإقليمية والضغوط  والحروب التي تعيشها كٌردستان والشرق الأوسط بشكلٍ عام جعلت القيادات الكُردية تتخلّى – جزئياً- عن المفهوم القومي للمشروع الكُردي في كلا الجزأين مع الاحتفاظ بحقوق المكوِّنات في التعبير عن نفسها والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية.

وهذا الابتعاد يتجلى في كون المشروع الفيدرالي في شمال سوريا خالٍ من أية صفة قومية بحتة، وتجلّى هذا في ملتقى مجلس سوريا الديمقراطية في الرابع والعشرين من الشهر المنصرم والذي التقت فيه الفعاليات الاجتماعية والعشائر العربية والكُردية والجهات الموالية للنظام السوري في مسعىً من المنظمين لإثبات حسن النية والتأكيد على أنّ المشروع الفيدرالي هو لكل السوريين على حدِّ سواء. كما أن  النظام الانتخابي الذي اعتمد – حسب ما تم إعلانه من قبل المجلس التأسيسي للنظام الفيدرالي الديمقراطي لشمال سوريا – على الانتخابات المباشرة في 60 بالمائة منه وعلى الديمقراطية التوافقية وعلى نظام الغوتة  في 40 بالمئة منه.

بالمقابل أيضاً السيد رئيس إقليم كُردستان مسعود البارزاني أكّد أنّ كُردستان بعد الاستقلال ستكون دولة فيدرالية وليست قومية في رسالة للدول الإقليمية التي لم تعترف منذ اتفاقية سايكس بيكو بالوجود الكُردي من جهة، وإلى مكوِّنات كُردستان من جميع الإثنيات والأعراق وتطمينهم بمستقبل الدولة في حال الاستقلال.

ولن يكون من السهولة بمكان أن تطبق مفاهيم دولة المواطنة بحذافيرها، فالإقليم رغم كونه المكان الأكثر أمناً واستقراراً وازدهاراً في العراق إلا أنّ المشاكل الداخلية والأزمات الاقتصادية منها والسياسية ستجعل الوصول لدولة المواطنة والقانون والمساواة والعدالة الاجتماعية بطيئاً حسب ما أعتقد، وهذا ما سيجعل الاستقرار- وسط محاولات إقليمية جمّة بإفشال المشروع الكُردي – صعباً في بداياته.

وأعتقد أنّ القيادات الكُردية الحالية في كلٍّ من كردستانَي سوريا والعراق اقتنعوا تماماً بفكرة الدولة الحديثة أو دولة المواطنة التي تعترف بحقوق كل إنسان يعيش على أرضها، كما أنّها قد تكون ردّة فعلٍ سليمة وواجهة حديثة ومنفتحة نحو المجتمع الدولي ككل بأنّ الكُرد قادرون على إدارة المرحلة بأنفسهم وقادرون على تثبيت مفاهيم الديمقراطية وقبول الآخر في مجتمعاتهم، لكن إلى أية درجة سينجحون؟ هذا يعتمد على تطبيق التجربة الجديدة شرق أوسطياً بشكلٍ فعلي، فالكُرد بعدما كانوا محكومون ويتم استبدادهم من قبل الأنظمة المتعاقبة في دول وجودهم، يرسمون الآن مرحلة جديدة من مراحل التاريخ الحديث.

ولا بدّ هنا أن نذكِّر بأنّ حاملي مشروع الفيدرالية الديمقراطية في شمال سوريا كانوا أول من تجاوبوا مع القيادات الكُردستانية في الإقليم في مسألة الابتعاد عن الدولة القومية وإرساء مفاهيم المواطنة وتعدّد المكوِّنات، وذلك بسبب التقارب فيما بين المشروعين – على الأقل من الناحية النظرية – باعتبار أنهما لم يدخلا حيِّز التنفيذ حتى الآن.

وإن كان البارزاني الذي أعلن عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة، قد تصدَّر قائمة موقع الجزيرة كأكثر الأشخاص تأثيراً خلال الأسبوع الفائت وبنسبة كبيرة، فإنّ الحالة الشعبية والاحتفالية التي يعيشها الكُرد جعلت مواقع التواصل الاجتماعي وأغلبية الآراء أطلقت على عام 2017 بعام الكُرد، في إشارة إلى الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرّر مرةً أخرى.

 

*إعلامي مستقل-قامشلو

 

 

التعليقات مغلقة.