النهوض الكردستاني ..من حمرين إلى عفرين
طه الحامد
لم تشهد حركة التحرر الكردستاني صعوداً متنامياً كما تشهده اليوم منذ تقسيم كردستان على أثر انهيار الإمبراطورية العثمانية, وما تلتها من انتفاضات كردية وثورات وأدت حينها دون أي منجز سياسي على الأرض, ورغم ذلك بقيت جذوة النضال التحرري متقدة مشتعلة, فقد استمرت ثورات باشور متوالية رغم حجم الكوارث والمجازر التي حصلت والانتكاسات التي مرت بها ودشنت بمنجز حقيقي في آخر المطاف بانتفاضة 1991 حيث أصبحت أجزاء واسعة من باشور حرة وأنشأت الإدارة الكردية بمعزل عن الحكم المركزي في بغداد لأول مرة من طرف واحد بعد ذلك, كما إن انطلاقة ثورة حزب العمال الكردستاني في باكور وإعلان الكفاح المسلح في 15 آب عام 1984 أضاف زخماً مفصلياً إلى مسيرة الطريق نحو حرية كردستان ولم تبق تلك الثورة محصورة في باكور بل وصل صداها إلى كل بقعة يعيش فيها الكرد, ولم تبق مرهونة في الجانب العسكري فقط بل طالت الذهنية الكردية وساهمت في إعادة تكوين الشخصية الكردية والذهنية الجديدة التي قتلت في داخل كل كردي انضم إليها ذلك الكردي المهزوم والخائف ليولد من جديد الكردي صاحب الإرادة المؤمن بذاته وبقدراته رغم كل أنواع الحرب والحصار الذي تعرض لها منظومة “ب ك ك” والتي كانت أقساها اختطاف المفكر والقائد عبدالله أوجلان .
وإذا عدنا إلى العوامل التي ساعدت كثيرا في تنامي المدّ القومي وصعوده لتصبح القضية الكردية ذات أبعاد دولية وتصبح جزءً من اهتمام الدول الكبرى التي تملك النفوذ الأقوى في الشرق الأوسط لابد من العروج على تبعات انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المنظومة الشرقية وحلف وارسو وتفرد القطب الأمريكي والغربي بعد الانتهاء من الحرب الباردة لصالح تلك الدول .
فالترتيبات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية وتقاسم النفوذ بين حلفين مختلفين ومتصارعين فكرياً واقتصادياً ألحقت أضراراً لا تقدر بقضية الشعب الكردي, حيث أصبحت سوريا والعراق تابعتين للاتحاد السوفييتي أو ما كانت تسمى بالمنظومة الاشتراكية وهذا أدى بطبيعة الحال إلى استقتال موسكو في الحفاظ على الاستقرار فيهما وعدم السماح قدر الإمكان من انهيار نظامي حزب البعث العربي الاشتراكي الذي صنفت بموجود التعريفات السوفيتية كأحزاب قومية اشتراكية ثورية معادية للإمبريالية والصهيونية وحتى وصل الأمر بالسوفييت إلى السكوت على مقتل وإعدامات المئات من الشيوعيين الذين كانوا يروا في الاتحاد السوفييتي طليعتها وقائدها , فكيف لا تصمت أو تساعد تلك الأنظمة ضد الثورات الكردية فيها والتي تخلق حالة عدم استقرار فيهما, ولأن الاتحاد السوفييتي وأمريكا كانتا متقاسمتين النفوذ وبينهما معاهدات بعدم التدخل في مناطق بعضهما البعض لهذا حتى الغرب لم يتقدم نحو الكرد في هاتين الدولتين بأي خطوة وإن كانا يراقبان الوضع عن كثب، وهذه القراءة كانت تسري على إيران الشاهنشاهية وعلى تركيا فهما كانتا من حصة الغرب وتشكلان جدران حماية متقدمة لحلف الأطلسي والغرب على حدود الاتحاد السوفييتي وأي مساس بهما يعني المساس بالحلف كله، وبطبيعة الحال أي تمرد أو ثورات كردية لن تكون محل رضا الأمريكان ولن يستطيع الاتحاد السوفييتي المساعدة لأنه مرتبط بمعاهدات سرية لتقسيم النفوذ مع الغرب .
فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي توجه الغرب لإعادة ترسيم المنطقة حسب مصالحها فكانت حرب الخليج الأولى والثانية وثم انهيار النظام البعثي في بغداد ودول الغرب لأول مرة في منطقة كانت محظورة عليها ولكي تستطيع النجاح في مساعيها كان لا بد لها أن تعتمد على قوة بشرية لها مصلحة مباشرة في تفكك المنطقة وهذه القوى كانت القوى الكردية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير ولهذا كان القرار التاريخي الذي اتخذه الرئيس جورج بوش الأب بفرض منطقة حماية وحظر جوي على جنوب كردستان بداية الطريق الذي أوصل الإقليم إلى ما هو عليه اليوم .
وبما إن تركيا التي فقدت دورها الوظيفي في ماكينة الغرب كحامية وحارسة أطلسية على حدود روسيا بانهيار الاتحاد السوفييتي, وبما إن الحكومة التركية أصبحت في حالة تناقض مع أمريكا بسبب الملف الكردي في جنوب كردستان وبرز ذلك عندما منعت تركيا من استخدام أراضيها في حرب تحرير العراق وتصاعد الإسلام السياسي في تركيا وتكوين رأي عام بارز في تركيا ضد الغرب وأمريكا من منظور ديني وسياسي أيضا، حيث أصبح نصف الشعب التركي الموالي للفكر “الإخوانية” و “العثمانية” معاديا للغرب، كان لابد من أن تفكر أمريكا بالأوراق الموجعة لتركيا ألا وهي الورقة الكردية كجغرافية محتملة وبديلة عن تركيا، وككتلة بشرية عسكرية ضخمة يمكن تحريكها وابتزاز الحكومات التركية بها وهذا ما حصل فعلا بعد انتقال عدوى الربيع العربي إلى سوريا، حيث لم تجد أمريكا سوى منظومة PKK وحلفائها بروجآفا من الاعتماد عليهم في تثبيت وجودها وبسط نفوذها بالمنطقة حيث تستطيع التأثير على أربع دول تقتسم كردستان بكل أريحية .
والكرد الذين خسروا فرصة إنشاء دولتهم كباقي الدول التي خرجت من رحم الإمبراطورية العثمانية بفضل مساعدة الغرب لهم فهموا مؤخراً المعادلات الدولية المنسجمة مع مصالحهم, وتقول الدفاتر والمذكرات التاريخية إن الكرد بغالبيتهم كانوا المدافعين الأشداء لحماية السلطنة العثمانية في أواخر عهدها وخاصة في الحرب العالمية الأولى, حيث كان العرب يعملون مع الغرب عن طريق الشريف حسين لإسقاط الإمبراطورية العثمانية لقاء وعود بإنشاء دول عربية كان الكرد في غالبيتهم ونتيجة الذهنية الدينية الإسلامية يساعدون فلول العثمانيين ولم يقدموا للغرب أنفسهم كشركاء كما فعل العرب سوى عرض بائس قدمه أحد الباشوات بتجهيز عشرة آلاف مقاتل كردي في الحرب ضد العثمانيين، ولكن كان كمال أتاتورك أشطر وقد استطاع أن يربح ويكسب ود الغرب في معركته ضد الكرد والأرمن بعد أن تحالف معهم في الحرب ضد اليونان وبقية الخصوم، واستطاع أن يخرج جنود المحور باتفاقيات ومعاهدات دشنت باتفاقية لوزان وتلتها الاتفاقية النهائية بتأسيس الدولة التركية الحالية .
من هذه المقدمة يمكن فهم ما يجري الآن من استراتيجيات دولية ضخمة لإعادة رسم خرائط المنطقة سياسياً وعرقياً وعسكرياً والدور الكردستاني المحوري فيها ، وخاصة في الجزء الغربي من كردستان روجآفا والجزء الجنوبي باشور, حيث يبدو إن حرية كل جزء منهما مرتبطة بحالة الأخرى ولا يمكن الفصل بينهما, فكلما تقدمت الانتصارات العسكرية والسياسية في روجآفا واقتربت القوات الكردية إلى حدود آمنة سواء نحو البحر الأبيض المتوسط أو نحو الحدود البرية للأردن كلما أصبحت فرص استقلال جنوب كردستان وديمومتها أفضل وذلك من خلال الرئة الكردستانية في روجآفا نحو المحيطات التي تتكون بخطى متسارعة بفضل تضحيات وحدات حماية الشعب وحنكة قادة ثورة روجآفا والدعم الدولي الكبير لها, وبنفس الوقت كلما اقترب الجنوب الكردستاني من الاستقلال كلما أصبحت روجآفا أكثر منعة وقوة، وكلما أصبحت الفرصة التاريخية أكبر لبداية تأسيس دولة كردستان من جبل حمرين إلى ما بعد عفرين .
ولاسيما إن العوائق الكبيرة بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً حيث يعاني العدو الرئيسي لحرية الشعب الكردي من أزمات وحصار خانقين له وخاصة الدولة التركية التي أصبحت ميؤوسة وعاجزة من وقف الصعود الكردي, فترمي بنفسها كالمتسول حيناً تهرول نحو روسيا وأخرى تستنجد بإيران وحالياً تستنجد بنظام الأسد ومستعدة لعمل أي شيء مادام ذلك يخفف من صدمة الزلزال الكردي الذي أوشك أن يصل إلى عقر داره في أنقرة، وسيصل في يوم من الأيام، وهذا حتمي وخاصة بعد أن تكونت قناعة راسخة لدى الغرب والكنيسة الكاثوليكية إن تركيا المتوجهة نحو العثمانية بشكل فاضح أصبحت خطراً على الحضارة والدول المسيحية, ومهما حاولت تركيا من استمالة هذا الطرف أو ذاك لن تنجح وكل من تستنجد تركيا بهم أصبحوا يتهربون منها وسيرمونها لمصيرها كما فعلت السعودية بها وستفعل روسيا وايران نفس الفعل بها بعد إن يبتزونها في الملف السوري إلى آخر معارض سوري .
ومن جهة أخرى حدثت نقلة نوعية وتقارب بين مشروع منطومة PKK ورؤيتها لشكل الدولة وبين ما طرحه الرئيس برزاني عبر التصريحات المثيرة في لقاء المكونات غير الكردية والتي أعلن فيها استعداده لبناء دولة غير قومية وحتى لو طلب الأمر سيغير الدستور والعلم والنشيد الوطني بما يتلاءم مع التنوع القومي في كردستان والشروع في بناء دولة فيدرالية لكل مكوناتها وهذا خلق حالة ارتياح لدى كل القوميات من غير الكردية وتطمينات ستدفعها لأن تكون جزء من الدولة المرتقبة وخاصة المكون المسيحي والتركماني والعربي السني, تلك الرؤية العصرية الجديدة والعلمانية تنسجم تماما مع نصائح وآراء الغرب والتي أصبحت حقيقة واقعية على الأرض في روجآفا, سيساهم ذلك في نزع فتيل النزاعات الداخلية وعدم إعطاء الفرصة لأي دولة سواء كانت العراق أو ايران أو تركيا من استغلال المكونات العربية والتركمانية من الوقوف في وجه المشروع الكردستاني وهذا أهم خطر يهدد المشروع فإن كسب الكرد شركاء الأرض والتاريخ عبر دستور وعقد اجتماعي حداثوي وفيدرالي فلن تستطيع الأنظمة إفشاله .
وخاصة إن الوضع العسكري وتدفق السلاح والخبرات الجبارة التي تمتلكها البيشمركة والكريلا ووحدات حماية الشعب أصبحت ضامنة لحماية ما يعملون عليه مع الغرب ولاسيما بعد انضمام أبناء وبنات المكونات الأخرى للقوات العسكرية سواء في باشور أو في روجآفا .
لم يبق أمام الكرد وخاصة في جنوب كردستان سوى إعادة النظر في آلية الحكم وإنهاء احتكار عائلتي الطالباني والبرزاني لمقاليد الحكم والشروع في مكافحة الفساد وبناء بنية الدولة صناعيا وزراعيا واقتصاديا وإعلان الطلاق النهائي بالثقافة القبلية والدينية وإعادة النظر بكل المنظومة الثقافية والسياسية التي كانت سائدة خلال العقود السابقة لإفساح المجال أمام بناء دولة الشعب والمواطن وليست دولة الحزب والعائلة, دولة لا يكون على أراضيها أي تواجد عسكري تركي وايراني ولا تكون سوقاً مباحة لشركات الدولتين بهذا الشكل المريع, وما يسري على جنوب كردستان يجب أن يسري على روجافا على صعيد مكافحة الفساد وتأمين حاجيات الناس وتقديم الخدمات الرخيصة لهم وعدم التحكم واحتكار المؤسسات والسياسة من قبل طرف واحد, بحيث تصبح المؤسسات للشعب وللمجتمع المدني والحكومة والأمن والجيش فوق الأحزاب .
إن بناء نظام حكم ديمقراطي عادل وعلماني و فيدرالي في إطار نظرية الأمة الديمقراطية في جنوب وغرب كردستان كفيل بتسريع وتيرة الحرية والوصول إلى تأسيس حالة كردستانية يكون فيها الكردي سيد نفسه وينهي وبشكل قاطع عصور الظلم والإبادة والإنكار الذي عاشه على مدار مئة عام .
التعليقات مغلقة.