وطنٌ بِحجم صالون حِلاقة !!

39

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

 

 

 

 

 

 

 

 

حسن حليمة :” يصبحُ الشَّعرُ مجنوناً أحياناً وأنا أعيدهُ إلى صوابهِ المَفقودْ ”

 

نغمَاتُ عَزفٍ على آلة العود يليْ ذلكَ صوتٌ رخيمٌ يَصْدُحُ ليجعلَ المحيطَ الصغيرَ رُكْنَاً شبيهَاً بمعبَدٍ في إحدى المدنِ الإغريقيَّة القديمة,آلِهَةٌ تتطايَر أسرارهَا وتتداخَلُ الألسِنَةُ في نقاشٍ محتَدِمْ,جَلَسَاتٌ عابِرَة لأناسٍ عابرينَ,يجلسونَ برهَةً يتبادلونَ خلالها أسرارَ البلاد البسيطَة,قراءةُ قصيدةٍ ضائعة لشاعرٍ ضائِعْ أو مقطع من روايَةٍ مُغبَرَّة الصفحات أو استماعٌ مذهلٌ لقطعةٍ موسيقيَّة أو اختلاقُ نُكتٍ وفُكاهاتٍ تُحْفَظُ في الأرشيف البشريّ لكلّ شخصٍ جالسٍ في دائرةِ هذا المكان,مجانينَ يقتعدونَ كرسي الانتظار إلى جانب العُقلاء ليتمَّ تبادل الأدوار دونَما قَصدٍ ,فتبقَى القلوبُ أسيرَةً للذَّةِ ورونَقِ تلكَ الجَلَسَات,ربَّما الحنينُ هو من يحثُّ على استحضارِ مثل هكذا أمكنة,المكانُ غائباً/حاضِرَاً, غائِبَاً حيث أجسادٌ غادرت هذا المكان وحاضراً حيثُ أرواح تلك الأجساد لا زالت تُرفرفُ محاولَةً الفِكَاكَ من ألَقِ وبهاءِ المكان!!, في ( عامودا) المدينة الصغيرة المليئة بالتناقضات والعلل النفسيَّة المتراكمة مجسَّدَةً على شكل لوثاتٍ عقلية متنقِّلَة تنفجرُ فجأةً وتغدو طقساً ملازماً , نمطاً اعتياديَّاً للحياة اليوميَّة . صالون حلاقة صغير يجمعُ عالَمَاً أنموذجَاً وخليطَاً يبعثُ على الدفء والرّعب في آنٍ معاً .في هذا الصالون استمعنَا الى قصائد كافافيس وريتسوس ومواقفَ النِفَّري ومخاطباتِهْ وقرَأنَا لرَهطِ المُنتظرينَ كتاباتَ شعراء عامودا وتبادلَ الروَّادُ الكتبَ وأقراصَ الموسيقا وأفلامَ السينَما والنُّكَات.

لو كانَ للمكَانِ ذاكرة,لو أنَّهُ تكلَّم فقط عن الغياب وعن تعاقُبِ الوجوهِ والأحاديثِ والمواقف,لكانَ للمكان صلةٌ تماثلُ تلكَ الصلة التي بينَ الدماغِ والأعضاء البقيّة في الجسم البشريّ,لا أوامرَ للذكرى والتذكِّر بدون العصب النَّاقِل,المكانُ عبارةٌ نالَت كثيراً من الدرس والتمحيص عبر العصور,مقاهٍ جمعت أدباء ومثقَّفين,دور سينما ومسارح لمَّت شملَ أُناسٍ ناقشوا أموراً مُستعصيَة,والمكان الذي أتكلَّمُ عنه,أنا ابنٌ له هو (صالون الشاعر حسن حليمة),ليسَ ذاكَ صالونَاً للأدب إنَّما هو صالونٌ فقط للحلاقة الرجاليَّة وكلُّ ما في الأمر أنَّ صاحبهُ شاعرٌ يكتبُ باللغة الكردية منذُ زمنٍ بعيد واختارَ أن يكونَ حلَّاقَاً شاعرَاً وليس شاعراً حلَّاقَاً,ثَمَّة اختلافٌ في جوهَر القرار!!

يبعُد منزل الفنان الكوميدي والتشكيلي ( شيرزان ) عن الصالون أمتار قليلة,خلال رحلة الذهاب والإياب إلى العمل في الإذاعة يمرّ بالصالون لتبدأ رحلة الصراخ لدقائق معدودة,نشاطٌ هذيانيّ يتألَّفُ من كلمات غير مفهومة,ترنُّح وضحكَاتٌ من الزبائن المنتظرين الجالسين بهدوءْ أن ينهي ( حسن حليمة ) من حلاقة الزبون الجالس على كرسي الحلاقة ليستعدّ الآخَر ,حركاتٌ بهلوانيَّة وتعليقاتٌ على النشاطات الثقافية والسياسية في المدينة ( عامودا),هذه المدينةُ المسترخية والمليئة بالتناقضات والتي اشتهرت بمثقفيها ومجانينها وأناسها الغريبي الأطوار والأحاديث, لم يشَأ حسن حليمة أن يشارِكَ في أيّ من النشاطات الثقافية التي كانت تُجرى في المدينة فالصالون بالنسبة إليه حياة كاملة لا ينقصها شيء,يكتبُ بهدوءٍ ويقرأ بهدوء أكثر,يجتمعُ حولَه محبّو الشعر والأدَب والموسيقى والصراخ فيتحوَّل الصالون الى مركزِ موسيقي وشعري وأدبيّ وثقافيّ متنوّع يضمُّ كل ما يمكنُ للمرءِ أن يناقَشَه أو يتلذذ بالاستماع إليه وعلى الرغم من صِغَر مساحَة الصالون إلَّا أنَّه يحوي عوالِمَ متَّسعة وآفَاقَاً للنقاش تَتَخَطَّى حدودَ النقاشات الضخمة لتسبر أغوار التفاصيل الدقيقة للأشياء والمواقفِ والنظريَّات, حياةٌ كاملة مصغَّرَةٌ ومضمومة في الحدود الإسمنتية الأربع للصالون ويقولُ الشاعر مازن الحسيني وهو من روَّاد هذا الصالون : للصالون ألفةٌ ما,ربما يكمن سرَّهُ في اجتماعٍ جميل دونما موعد سابق مع أصدقاءٍ ليبقى باب النقاش موارَبَاً لكلّ ما يخطرُ في المخيَّلَةِ من مواضيعَ مختلفة وفيه تعرَّفتُ على وجوهٍ كثيرة ومازالت أمكنةُ الجلوس والجدران تتذكَّرُ البعض بأدقِّ تفاصيلهم بينما طوَت آخرينَ في ملفّ النسيان لا تتذكّرُهَم البتَّة وما يستحضرني وأنا في صدد الحديثِ عن هذا المكان بعض الإنتقادات اللاذعة التي كانت تبقى لأيَّام شرارَةً لقهقهات تكرر نفسها لأسابيعَ طويلة.

أذكر حين كنتُ طالباً في الجامعة كنت أبقى شهوراً في المدينة الجامعية ويستبدُّ بي الشوقُ وعند عودتي الى المدينة كنت أحيي والدتي ومن ثم انطلق الى الصالون ( وهذا حالُ كلّ الأصدقاء الذين كانوا يداومونَ في الصالون بشكلٍ مستمرّْ , وكأنَّ الذكرى هُنا هو الحنينُ المُترجِمُ للفعل!!) لأرى حسن حليمة واقفاً ذات المشهد وهو يحلق لأحدهم ( مشهدٌ بديع يماثلُ لوحةً تشكيليَّة ممزوجَةَ الألوان , حسن حليمة وهو واقف مع نصف انحناءَةٍ منكَبَّاً على رأس الزَّبون المسترخي على الكرسي واثقَاً من أنامل مَنْ يَحلقْ) وفور رؤيته لي يبدأ بالصراخ والضحك والمزح ليخلق بذلك جواً آسِرَاً في التعبير, كل من جَلَسَ في هذا الصالون أدركَ ولا يزالُ حتَّى وهو بعيد عن هذا المكان أنَّهُ يومَاً ما سيعودُ الى هذه الرقعةِ الممتعةِ من بلادٍ منسيَّة ,يقولُ ( محمد خانيصوري ) وهو من أحد الروَّاد لهذا الصالون وعلى الرغم من ابتعاده عن سوريا وإقامته في الخارج يقول عن هذا المكان : صالون حسن حليمة كانَ يعني لي الراحة التَّامَّة ,يعني لي حرية لا مثيل لها حيث تشعر بكل شيء جيد هناك, ويقول عازف الفلوت أحمد قافور وهوَ الآن خارجَ المكان:لقد كان الصالون مكانَاً لاستنشاقِ الأوكسجين,فيه نلتقي بالأصدقاء,إنَّهُ مكانٌ شبيه بتجمّعٍ سحريّ حيثُ تعثر فيه على كلّ الأصدقاء الغائبين,إنْ لَم تلقَى جسدهْ فحتمَاً سَتَتَعَثَّرُ بروحهِ الهائمةِ في أرجاء هذا المكان!! فالصالونُ يتحوَّلُ بشكلٍ عادل وفقَ اهتمامات الحاضرين,سياسة,اقتصاد,رياضة,سينما,مسرح,أدب,فن تشكيلي,وكل ما يمكن أن يخطرَ على البال.

ويقول آخر ( عزيز كارِس ) وهو ناشط سياسي شاب من روَّاد هذا الصالون : صالون حسن حليمة يعني لي الكثير,يعني لي العشق للفكر والتطور,يعني لي حالةً ثقافيَّة متنوِّعَة ونادرة,صالون حسن حليمة اعتبره أهمّ اختراع لا بل يفوق أهميته مواقع التواصل الاجتماعي,صالون حسن حليمة يعتبر صالون الإرشاد والتوجيه والمناقشة والبناء.

غادر مثقفو المدينةِ الى المنافي رغماً عنهم ولا زالت الذكريات تعصف بهم لينشروا صورَهُم التي بقيت في ذاكرتهم عبر صفحات التواصل الاجتماعي وليسألوا بدايةً وقبلَ كلِّ شيء عن حال الصالون وحال الحلَّاق الشاعر حسن حليمة ولا زالَ هناك من آثرَ أن يبقى في المدينةِ التي لم تطلها نيران الحرب في سوريا سوى من ناحية الفقر والوضع المعاشي المزدري ليبقوا هنا مستمرّينَ في تحليل الوضع يتناقشونَ فيما بينهم وكأَنَّهَم في عالَمٍ مُغايِرْ, يقول ميرآل كيلو ( مصور فوتوغرافي ): إن صالون حسن حليمة هو ملجأي,فهذا المكان يشعرني بالولوج الى رحم أمي كلَّما دخلته ويتابعُ كيلو الحديث عن الصالون :الصالون يعتبر مركز ثقافي حاضِنْ, وفقط لو كانت مساحتهُ أكبر قليلاً كنَّا سنستغلُّه بشكلٍ جيِّد لنعرض فيه أفلاماً سينمائيَّة عوضاً عن نقاشاتِنَا السينمائية في الصالون وكنَّا سنقيم أمسياتِ شعريَّة نقرأُ فيها نتاجَات الشعراء أبناء هذا الصالون وأصدقائه ومن وجهة نظري هو أبعد بكثير من أن يُكنى بـ صالون وفي كلِّ مرَّةٍ أرى فيها حسن حليمة وهو منهمك في حلاقة زبون ما أشعر وكأنَّهُ يكتب قصيدَة ,ففي اليوم الواحد يكتب حسن حليمة مئات القصائد من خلال عمله!!

يتحوَّلُ الصالون بسحرٍ ما خفيّ في كل لحظة الى نادٍ للسينما يتبادَل فيهِ الجالسون أسماءَ الأفلام السينمائية وانطباعاتٍ عن المخرجين وأبطالَ التمثيل ومن ثمَّ الى حلبَةٍ لمناقشة المباريات الرياضيَّة ثم وبحركَةٍ ما يشغل أحد الجالسين جهاز التلفاز ليظهَر خبَرٌ سياسيّ فيتحوَّلُ الجميع الى نقاشٍ للخبر فيدفعُ أحد المجانين في ذات اللحظة باب الصالون ويدخُل ليتَّجه الجالسونَ إليه وتبدأُ رحلَة الضَّحِك فيشعر أحدهم بالجوع ليغادر للحظاتٍ عائِدَاً معه أرغفة خبز (ساخنة يطلَقُ عليها هنا الناس الرغيفَ المدعوم ) ليعدّ هو بنفسه شايَاً ساخِنَاً وتعودُ النقاشاتُ إلى احتدامِهَا,يقول حسن حليمة وبعدَ أن هاجرَ أصدقائِه القدامى خارِجَ المكان : لن أغادِرَ الذكريات,سأبقى هاهُنَا ألوكُ العتمَةَ مع أصدقائي الأشباح!!!

جوان ناز/  عن مجلة شار العدد 1

التعليقات مغلقة.