النص والتلقي (موت الكاتب وإحياء مؤلف آخر هو المتلقي)  

58

 

عبد المجيد محمد خلف

 

فهم (النص، الفكرة، تكثيفها، قدرتها على التأثير)، ضرورة لابد منها عند البدء بالكتابة، ومتطلب هام جداً، يترك أثره في كل من النص، والمتلقي، وكثير منها يقع على المتلقي، وكثير منها يقع على الكاتب، وهذا يؤدي بالضرورة إلى ترك أثر، ووقع خاص في النص…

ولعل تواشج الوعي، ومعرفة المبدع لدوره في المجتمع، وتأثيره فيه، يساهم مساهمة فعالة في تجلي النص، ووضوحه، وبالتالي الاستفادة منه، والتنبه إلى أهميته، وخصائصه، وعندما يدرك المبدع والكاتب هذه الخصيصة، يستطيع إدراك حاجات أبناء المجتمع، ومدى المستوى الثقافي الذي بلغوه، وبالتالي القيام بدروه على أكمل وجه فيه…

فقد يرحل الأدباء، والمفكرون عن الحياة، فيحمل أشخاص آخرون أفكارهم، ويكملون الطريق الذي بدأ به هؤلاء، والسؤال الذي يطرح نفسه هل فعلا مات هؤلاء؟ لمن بقي الفضل الأكبر في نقل ذلك النص، أو تلك الفكرة التي تركها خلفه؟ وما السبب في بقائها محافظة على قوتها، ولزومها لكل زمكان؟ أهي القدرة الكبيرة التي كان يمتلكها ذلك المبدع، أم أن الذائقة التي تلقت تلك الفكرة، وحوّلتها مع مرور الزمن إلى رسالة تتناقلها الأجيال؟ ما السر الكامن وراء ذلك؟ نصل إلى جواب واحد، وهو أن المبدع حدد ما يريد بدقة، ونقل أفكاره بصور واضحة وعميقة وقوية إلى المجتمع الذي أكمل وظيفته بدوره على مر الزمن.

وإذا كانت الأفكار تتواتر مشافهة، فما السبيل في ذلك، ونحن في عصر سهّل فيه العلم والتكنولوجيا كل شيء، وكثرت فيه وسائل الكتابة؛ فكل يوم نرى الكثير من المقولات، الكلمات، الأفكار والجمل القصيرة حتى تنتشر بشكل لا يصدق في تلك الوسائل، وفي الكتب التي كثرت طباعتها بشكل كبير جداً، وما عاد الكاتب يشعر بالحرج في ذلك.

لكن البعض من الكتّاب مازال عاجزاً عن إيصال أفكاره إلى المتلقي، وترك ذلك الأثر الفعال فيه؛ ليعيش معه النص زمناً، ومدة أطول من المدة التي كانت متوقعة له، وهذا كله يعود إلى أنهم يقعون في مشكلة السطحية، والبساطة إلى حد السذاجة، وتفتقد أفكارهم إلى العمق، الجدة والابتكار، ويولد النص فاقد الهوية، والقوة على الاستمرار، والحياة والابتكار، فيكتب له الموت لحظة ولادته، ما سبب لهم مشكلة كبيرة؛ فما نبحث عنه هو نص يترك أثراً عميقاً في الذات المتلقية، ويكون قادراً على إثارة عواطفها، وجعلها تشاركه في حمل مضمون ذلك النص، وصونه، وهذا يعني بالضبط أن يوجه الكاتب نصه إلى مجتمع يفهمه، ويكون لديه نوع من الثقافة تمكنه من فهمه واستيعابه؛ فالنص يعاود الحياة عبر التلقي، ويكون موقع المتلقي أيضاً كموقع الكاتب تماماً؛ فمنهم من يسبر أغوار النص، مدركاً إبداعه، متفهماً مضامينه، ورؤاه الحياتية، ويحمله إلى غيره، ومنهم من يكتفي بالنظرة السطحية البسيطة، ولا يتجاوزها.

وقد يقابل عندنا نص فقير بتلقٍ غني، وقوي، لكن هذا لا يخلصه من مشكلته، ولا يجعل منه نصاً قوياً، والعكس أيضاً ينطبق عليه نفس الشيء؛ فقد يكون النص قوياً، إلا أنه لا يقابل بذلك الحجم المطلوب، ولا يلقى صداه في المجتمع، وهذا لا يعني أنه ضعيف، ويغنى النص عندما يتلقاه متلقٍ غني بثقافته، أفكاره وسعة اضطلاعه، لذلك لابد أن يأخذ الكاتب في حسبانه المكونات الثقافية للمتلقي؛ لأنها ضرورية جداً، ومهمة لجعل النص أكثر غنىً، وقدرة على الانتشار، البقاء والاستمرار عبر الزمن، لدرجة أنه يمكن القول والإشارة: بـ(بموت الكاتب وإحياء مؤلف آخر هو المتلقي)…

 

نشرت هذه المادة في العدد (65) من صحيفة “Buyerpress”

بتاريخ 15/7/2017

 

 

التعليقات مغلقة.