في اتفاق الموالاة والمعارضة السوريتين

34

عمار ديوب

الانقسام الذي تعمَّق بين طرفَي الصراع في سورية منذ 2011، أي قوى الثورة وقوى النظام، أظهر ضعفاً وطنياً كبيراً؛ فالاثنان، استعانا بالخارج، وكأنّ الأخير لا مصلحة له في انتصار النظام أو المعارضة. توهما أن المعركة سهلة، وستنتهي في أشهرٍ على أكثر الاحتمالات. هناك من كان يعتقد أن الثورة وتطوراتها لن تنتهي باكراً، ربما كان هؤلاء يعرفون جيداً أن النظام سيُسلّم سورية لإيران أوّلاً ولروسيا ثانياً، وأنّ المعارضة ستصطف خلف  المصالح الإقليمية والدولية، وبالتالي سيتأقلم الوضع السوري وسيتدوّل، وبذلك يصبح من غير الطبيعي أن ينتهي الصراع قبل حصول تفاهمات إقليميّة ودوليّة. الأمر الأخير مستبعدٌ في الأمد القريب كما يبدو، والأنكى أن الأزمات تتالت، فمن رئيسٍ أميركيٍّ لا يمتلك استراتيجية محدّدة، إلى أزمةٍ خليجيّةٍ تكاد تخلط كل أوراق اللعب السياسي في المنطقة، وأنّها قد تكون بوابة تغييرات في تركيا وإيران، إلى انتصاراتٍ متعدّدة في الدول التي حدثت فيها الثورات منذ 2011. وبالتالي، تبدو الثورات وقد تحوّلت إلى أزماتٍ بلا نهاية، كالأزمات السورية والليبية واليمنية وسواها.

يؤكد خطاب الموالاة أن إيران ومليشياتها وروسيا قوى صديقة، ولا يمكن اعتبارها قوى احتلالية، وهي ستغادر سورية، حالما تنتهي “المؤامرة”، بينما تركيا وأميركا والخليج هم أطراف المؤامرة والاحتلال، ويريدون بسورية كل الشر واستعمارها. بدأ هذا الخطاب، وكانت ما تزال وفود قطر وتركيا تزور النظام، لتحثه ليتعامل مع الثورة بالإصلاحات وإنقاذ مصالحهما المشتركة. عكس ذلك، أضعفتِ المعارضة من الشأن الوطني في طروحاتها،

وغَلّبت ومنذ بداية الثورة الشأنين، الدولي والإقليمي، في نصرة الثورة. ولهذا رفعت شعاراتٍ واضحةً في دلالتها، مثل جمعة الحظر الجوي والحماية الدولية وسواها. اعتبرت الرؤية الوطنية أمراً مستهلكاً، ولعبةً سيستغلها النظام لإعادة إنتاج نفسه وفقها، وبالتالي لا خيار سوى رمي هذه الرؤية بعيداً، والركون للخارج في إسقاط النظام. وبذلك، حاولت المعارضة، ولنقل أقسام منها، تحويل شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” إلى “الخارج وحده سيسقط النظام”. عكس ذلك رؤية النظام، فروسيا وإيران حلفاء له، وهم في سورية من أجل دعمه. وبالتالي، ليس هناك تهديد للسيادة الوطنية، وما يزال مسؤولو النظام يثرثرون بذلك، على الرغم من أن السماء السورية أصبحت حكراً على الطيران الروسي والأميركي والإسرائيلي!.

حطمت الثورة أغلبية جيش النظام، لكنها، في معركتها هذه، أصبحت فصائل عسكرية تابعة للدولة الخارجية. ازدادت تبعية النظام ذاته لإيران وروسيا. وكانت هذه التبعية مدروسةً من هذه الدول، فهي لا تثق بالنظام، فهو سيحاول توظيفها من أجل استقلاليته عنها، وهذا ما دفع حلفاءه لجلب مليشيات خارجية، وتشكيل مليشيات سورية تابعة لها، وآخرها محاولة روسيا تشكيل الفيلق الخامس بقيادتها. الصورة هذه أوضح في طرف القوى المناهضة للنظام، حيث أصبحت الفصائل تابعةً بشكل كامل للدول، وتتحرّك بموجب أوامرها كذلك، بدءاً بجيش الإسلام والجبهة الجنوبية، وليس انتهاءً بأحرار الشام، وأصبح الحديث أخيراً حول احتمال أن تحلَّ الفصائل الممسوكة من تركيا والسعودية مكان المليشيات الشيعية الإيرانية، وبالتالي تتخلى روسيا عن ورقة إيران في سياق تقاسم سورية مع أميركا، وموافقة الأخيرة على حصةٍ أكبر لروسيا فيها.

النظر إلى لوحة الصراع في سورية يقول بتقاسم مناطق النفوذ، وتحديدها مناطق تابعة للدول الإقليمية والعظمى. النظام والمعارضة ضمن هذا السياق. الإشكالية هنا بالتحديد، أي في غياب أي مشروع وطني للوضع الذي يتشكل تباعاً؛ ربما يكون أصل الهشاشة الوطنية هذه في الاستهلاك التاريخي لقيم الوطنية والمقاومة، بينما كانت عوامل الإفقار والتهميش والقمع والتطييف تتراكم. ويوضح هذا التراكم أكذوبة الوطنية الشمولية، وبالتالي سهولة تخلي النظام والمعارضة عنها، ومحاولة اجتثاث الآخر؛ فالتكاذب السابق، وتحت ظل النظام انتهى. فضحت الثورة الجميع. فضحت النظام، حيث سخر كل مؤسسات الدولة للإجهاز على الشعب الثائر. واستعانت المعارضة بأيّة قوىً لها مصالحها في سورية، وليس انتهاءً بالدول الإقليمية والعظمى، بل وكذلك بحركةٍ جهاديّةٍ، كجبهة النصرة أو بحركة سلفيّةٍ كجيش الإسلام وأحرار الشام وسواهما.

نعم، النظام باعتباره ممثلاً للدولة هو المسؤول الأول عن مآلات سورية، فهو من رفض كل وتحقيق مطالب الشعب، وإنقاذ نفسه والثورة وسورية. ولكن أيضاً لم تفكّر المعارضة برؤيةٍ وطنيّةٍ وبعمقٍ أكبر بالثورة ذاتها، وبإمكانية استغلال الدول الخارجية لها، من أجل الإجهاز على سورية، وليس الثورة فقط؛ وهو ما جرى.

هناك نقطة اختلاف، أن الثورة هي المُراد الإجهاز عليها؛ هذا لم تفهمه المعارضة، وهو مطلب النظام وكل الدول التي دعمته أو “دعمت” الثورة. لو فُهم الأمر هذا، لربما شهدنا سياقاً مختلفاً لتطورات الثورة. في هذا، ليس صحيحاً أن خيارات سورية كانت واحدة، وهي الحرب والدمار وبحر الدماء الذي لا ينتهي.

أصبحت سورية الآن محتلة بالكامل، وستنشئ أميركا قواعدها العسكرية في شمال سورية، وربما تتهيأ لمعركةٍ قاسيةٍ مع إيران بصفة خاصة، كما أنشأت روسيا قواعدها. الدولتان العظميان مختلفتان بالنظر للمنطقة، وهذا سببٌ أساسي لتأجيل الحل السياسي، واللعب على السوريين وعلى العالم، عبر مؤتمرات أستانة وجنيف. وفي سياق التأجيل المستمر، يستمر قضم المدن والمناطق الخارجة عن النظام، أو يتم تهميشها بشكل كامل، كما يحدث، أخيراً، في ريف حمص الشمالي ودرعا والغوطة الشرقية.

كتبت أعلاه، لا حل للوضع السوري قبل حدوث توافقاتٍ دولية، ونقصد أن تضارب المصالح العالمية بين روسيا وأميركا واستمرار الخلافات والعقوبات على روسيا وعدم حل مشكلة أوكرانيا وسواها. وبخصوص منطقتنا، هناك تعارض حول الموقف من إيران والأكراد، كلها قضايا تقول إنّ لا حل قريباً في سورية. عكس رؤيتنا، وفي حال تحقق أي حل، سيكون لصالح تشكيل نظام هشّ، ويمثل الفصائل القوية في إدلب وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ودرعا ومناطق أخرى، وسيُراعي الطوائف والعشائر، وبالتالي سيُؤسس لتغييبٍ كاملٍ للهوية الوطنيّة.

كل الفاعلين خارج أطر المعارضة والنظام معنيون بوعي ما وصلت إليه سورية من دمار وقتل واحتلال ولجوء للخارج، وهناك انهيار اقتصادي واجتماعي وسياسي مهول. ربما يساهم وعي ذلك في التأسيس لبدايات الخلاص السوري.

سورية تحت الاحتلالات الآن، وتنتظر تشكيل قوىً وطنية لمناهضتها ومناهضة أدواتها الكامنة في النظام والمعارضة.

 

التعليقات مغلقة.