«ثلاث خطوات إلى المشنقة» هي زمن رواية جان دوست

53

الشرق الأوسط- Buyerpress

الحكاية التي يرويها الأديب الكردي جان دوست تستغرق زمنياً تلك الخطوات التي تفصل الشيخ الثائر، سعيد عن الموت. إنها «ثلاث خطوات إلى المشنقة»، لكنها في مخيلة الرجل وزمنه الداخلي سبعون، عاماً عمره كله، من لحظة ولد، مرورا بكل الأحداث الجسام التي عاشها وصولاً إلى هذا المكان مكبل اليدين بالأصفاد،  يحيط به حارساه من الجانبين وهما يقودانه إلى حبل الإعدام المتدلي أمامه.

«هنا نحو خمسين مشنقة، نحو خمسين رجلاً، هو أحدهم، يتزلجون صوب الموت في ذلك الليل الحاّر الأخرس، من ليالي ديار بكر…». إنهم رفاقه الذين سبقوه إلى هذا المكان. ها هو يتبين ملامحهم، ويرى رؤوسهم التي خطفت منها الحياة.

هي قصة الشيخ سعيد بيران النقشبندي الذي ثار على العثمانيين في جنوب شرقي تركيا، بعد سياسة التتريك وانتفاض الأقليات وتمردهم. كتبها جان دوست ونشرها بالكردية في إسطنبول، ونقلها بنفسه إلى العربية لتصدر عن «دار الساقي». هي تاريخ إنساني روائي للحلم الكردي باستقلال ذاتي ما أو دولة، وما عاشه الأفراد من متمردين وقانعين، خلال تلك الحقبة ولم تفض أبدا إلى شيء

الدولة العثمانية تنهار، والحدود تبدأ بالسقوط، والغاضبون يأخذون بالتململ ظناً منهم أن الوقت حان للاحتجاج.

لكن القصة لا تفتتح باندلاع الثورة الكردية التي قادها هذا الشيخ، كما يتوقع القارئ، وإنما من النهاية، بعد أن أجهض التحرك. يمسك جنديان بذراعي الشيخ المتمرد الذي قاد الثورة وقد قبض عليه، وهما يسوقانه إلى ساحة المشانق، بينما حلّ ظلام حالك، في مدينة آمد التي نامت وهدأت. أما سعيد، الرجل العجوز المقيد اليدين، فعطشه تحول إلى ملوحة في فمه، وحصاة صغيرة استقرت بين إصبعين من أصابع قدمه اليسرى تؤلمه كثيرا، وتقطع عليه سيل أفكاره التي يريدها أن تتدفق، وهي تمر كفيلم سريع أمام عينيه، قبل أن يلاقي نهايته. يتذكر ويتذكر لأنه يعلم «أن الحياة زقاق وحيد الاتجاه، ينسد من الخلف كلما مشى فيه الإنسان». ولم تكن هذه الحقيقة أقرب إليه من هذه اللحظة.

الحصاة في الحذاء، الأنسام الصيفية التي تجعل ثوب العجوز يتطاير، الظمأ على ضفة نهر، خشب الحور الذي صنعت منه المشانق، النجوم التي تلتمع في السماء، الطيور التي تزقزق مع خيوط الفجر الأولى، هذه التفاصيل لا تفوت العجوز، رغم فظاعة الموقف. الماضي بدقائقه والحاضر الذي سينتهي بعد لحظات، هو ما يشغل صفحات الكتاب. يحاول جان دوست أن يقدم رواية شديدة الإنسانية رغم أن الخلفية سياسية. ينتمي إلى دولة إفريقية أو شرق آسيوية دون أن يتغير الكثير. لكن الكاتب يبدأ بطيئاً بإيقاع متهاٍد يشبه بطء حركة الشيخ المنهك، لنجد أن الذاكرة تصبح أكثر حدة في النصف الأخيرحيث تتدفق في مخيلته، قصة حبه للشابة بريخان وكذلك كل تلك الانقسامات التي تفرق الأكراد وتشتت العشائر، مما يجعل الثورة التي قادها، رغم حماسة الثوار تنتهي إلى ما آلت إليه.

«في رمضان تمزقت قربة الثورة، وتناثر الثوار كالسمن المهراق في كل مكان. كان الشيخ صائماً حين حاصره الجنود مع رفاقه، ومع أنهم كانوا على نهر فقد استبد بهم العطش» فقد كسر الجنود جرارهم الصغيرة أمام أعينهم وكانوا ظامئين وأخذوا معهم ظمأهم إلى المشانق. يتذكر الشيخ أنه سجن خمسة وسبعين يوماً لم يظفر خلالها ولو بجرعة ماء. تتناسل أفكار الرجل وهو يكمل خطوات متأرجحة بين تلك التي أوصلته إلى النهاية، وما يحيط به، وطفولته البريئة في تكية والده في بلدة بالو. ويوم كان طالب فقه.

»وكيف وصلت حال آمد إلى صراخ، وأطلال وخراب، بعد أن كان الأطفال يلعبون «الغميضة» في الحقول، ويذهبون لاصطياد السراب. من ضمن ما يرافق الرجل إلى موته العذاب الذي خلفه وراءه «الدخان الذي يتصاعد من القرى المحترقة»، عويل ثكالى وأنين أطفال جرحى.

يعلم العجوز أن الوقت ينفد، لكنه لا يزال متاحاً والصور تتدفق، تختلط ببعضها البعض، وتستدعي واحدتها الأخرى والصور تتدفق، تختلط ببعضها البعض، وتستدعي واحدتها الأخرى . هذا الاستدعاء، يشكل جزءا من لعبة الرواية ومبررا للانتقال في الأزمنة والذهاب جيئة وذهاباً على خط الأحداث. فمرة نحن في حضن الطفولة، ومرة أخرى قرب حبل الموت، ومرات بين الثوار. لا شيء يمنع المخيلة من أن تتنزه كيفما أرادت، والرواية كلها دفق ذكريات.

يعلم الشيخ وقد وقعت الواقعة أن «الدول الكبرى لم تصبح أعمدة يلجأ إليها والعشائر الكبرى لم تصبح كذلك أيضاً ». غالبية الذين دعاهم للثورة على العثمانيين قالوا: «ديننا ومذهبنا واحد ونحن رعايا هذه الدولة، لن نرفع السيف في وجهها»

بضمير الغائب يتحدث الراوي، يصف حال العجوز الواقف أمام، سيل الصور التي تداعب أخيلته، وحين يلتف حبل المشنقة حول رقبته يبدأ نهر علقمي من الذكريات: «لم يأت سيد رضا لنجدتنا، لم يأت سمكو شكاكي ولا الشيخ محمود من السليمانية، لكن على الأقل لم يغرزوا نصل الخنجر في ظهري كما فعل رؤساء العشائر ليس هؤلاء وحدهم من خذلوه، هو أيضاً ورفاقه لم يفكروا أن تساعد فرنسا التي كانت في سوريا الأتراك تركوا الجبهة الجنوبية جهة ماردين، خلال حصار ديار بكر دون قوات تقريبا لكن من هناك جاء الهجوم عليهم.

بين التاريخي والإنساني والتخيلي، يلعب الروائي. وبالتمسك بزمن بالخطوات الثلاث وما يصاحبها من كثافة في الأحاسيس والمراجعات، يروي حكاية ثورة كردية صغيرة، لكنها مؤلمة. ويستفيد دوست من صوفية الشيخ ليحّمل الحكاية نفحة زهد بلغة شاعرية.  وبما أنه قرر أن يقص علينا الحكاية مقلوبة ، بحيث نبدأ من نتيجة هذا التمرد ونتدرج في اكتشاف تفاصيله مع تقدم العجوز إلى حتفه، فإن النهاية التي يفترض أن القارئ ينتظرها في الصفحات الأخيرة لن تكون مفاجأة لأحد. فالحكم بالموت معروف سلفاً لكن دوست يقرر في هذه اللحظة تحديدا أن يجعل الشيخ يتحد مع حبيبته بريكان التي حمل منديلها الأخضر خمسين ، وكان قد وعدها أنه لن يستخدمه إلا لتجفيف دموعه لكن دمعته الأخيرة سالت دون أن يتمكن من مسحها، فقد صادره الجنود منه، أما يداه فمغلولتان.

موت الشيخ النقشبندي ليس نهاية الحلم، فقد لفظ أنفاسه «لكنه اتحد مع النور» ولا يزال يريد أن يسأل سؤالاً، من الصفحة الأولى، ومع ذلك نصل إلى الكلمة الأخيرة ولا نعرف ما هو.

التعليقات مغلقة.