الزمن والهاوية في علاقة حب عاصف بين امرأة ومراهق
Buyerpress
أصدر مشروع “كلمة” للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة رواية “سيركٌ يَمرّ” للكاتب الفرنسي باتريك موديانو الحائز على جائزة نوبل لعام 2014. وقد ترجمتها إلى اللغة العربية الشاعرة اللبنانية دانيال صالح.
إن إحدى أهم سمات أعمال موديانو تكراره للصفات والتيمات نفسها التي تميز نصوصه الأولى. يبدل الكاتب الأحداث ويطور الشخصيات، تشيخ أفكاره وتنضج، ولكن يظل الموضوع واحداً.
وفي رواية “سيركٌ يَمرّ” ينعش الكاتب موضوعه الأثير: غرام مع امرأة أكبر سناً، وهي واحدة من صفات الحبيبات في رواياته. الراوي هو المحب وكان وقتذاك مراهقاً في الثامنة عشرة من عمره، لا يزال تحت السن القانونية وفقاً للقانون الفرنسي وقتذاك.
منتصف الستينات من القرن العشرين هو زمان الأحداث التي تقع في باريس، في قلب هذه الرواية الرومانسية وبعبارات بسيطة وبليغة يقودنا الكاتب إلى الشوارع والمطاعم والمرافئ والفنادق الرخيصة وأجمل علامات المدينة، وهناك يلتقي الحبيبان اللذان تدور حولهما الرواية ويفترقان.
تبدأ الرواية بكلمات الراوي وهو يرجع بذاكرته إلى سنوات بعيدة ليستحضر هوى قصيراً حين كان تلميذاً يحاول التهرب من الخدمة العسكرية في باريس. يقابل المرأة التي سيقع في حبها في أحد أقسام الشرطة. ومع سؤال ظاهره البراءة من جانبها، “هل تسدي لي صنيعاً؟” يجد الصبي نفسه في علاقة غرامية أشد ما تكون خطراً ونذيراً بالسوء، حيث تتغير حياته التي كانت قائمة على الطمأنينة. فيضيق صدره عن الجميع سواها، و”لا يذل الحبيب إلا نفسه”.
مع تطوّر قصة الحب ثمة غطاء كثيف من السديم يعلو المدينة. فيعبر الحبيبان النهر في الظلمة وظلال من الناس وتحولات الرغبة ترتعش منعكسة على الطرقات. وتطرح مقاهي باريس أسئلة أكثر مما تجيب عنها، فالاثنان يرتادان مطاعم لا اسم لها ليلَ نهارَ، في حياة عاطلة لا هدف لها.
تروح المرأة وتجيء بحقيبتي سفر، قد تكون متزوجة وقد تكون عزباء. أخلاقها محل شك. اسمها جيزيل أو هكذا ادعت. ورغم سنها فهي عاطلة من أي حكمة. مدينة بالنقود لصحبة السوء. ولا أحد من ثلتها يكمل جملته، فالكل خائف من الإفصاح عن هويته.
كان الصبي حبيبها في السر، وأخاها أمام الغرباء. تقْسم له ويصدقها. يصدقها مع أنه يعلم بحقيقة كذبها. الواقع أن الأكاذيب مشتركة من الطرفين.
والحب لصيق بالكذب في روايات موديانو. وبالمثل يتطاير في الهواء إحساس بالشر والشك وهي تخطط للهرب إلى روما، “يمْكنك أن تشعر بالأمان في مدينة غريبة. لن يعرفنا أحد”.
ينسحب الصبي إلى عالم المرأة الملغز، فيلتف حوله أشخاص من معارفها، يجهلهم، ويدب في قلبه الخوف منهم. عالم سفلي يتورط فيه مراهق أعزل، أبواه أيضاً يتشحان الغموض. ولا أحد يعلم السر، فكما يقول الصبي “كلاهما في الخارج ولا علم لي متى سيعودان إن كانا سيعودان أبداً”.
يحتار المراهق إن كان معارف حبيبته من دم ولحم أم أنهم أشباح من ثمرة خياله أم أنه يحلم حلماً تتكرر صوره في كل ساعة.
وفي كل مرة تتباين الصور وتنقلب مسوخاً. يحكي الراوي، “لو بوسعي العودة إلى الماضي والرجوع إلى تلك الغرفة، لغيرت اللمبة. ولكن كل شيء قد يتلاشى في الضوء الساطع”.
يتعمد موديانو ألا يقحم الكثير من المنعطفات والتحولات في السرد. فقط يضمن حكيه إشارات ومفاتيح دلالية، ومع ذلك لا يجاهر بشيء، فأسلوبه خال تماماً من الحواشي. لا ندري كيف كان الجو أو الأزياء أو حال الشخصيات الثانوية، فهو لا يذكر شيئا من هذه التفاصيل.
بل إننا لا نعلم شكل المراهق بالضبط، حيث اعتاد الكاتب رمي جملة أو موقف دون الإفصاح عن مدلوله. هل بدأت علاقتهما أفلاطونية أم كانت جنسية بحتة؟ ثمة من الرموز ما يعضد الرأيين، فموديانو لا يروي قط ما يجري بينهما في الفراش. ولكن المراهق يقول ذات مرة، “مرة أخرى أشعر أني أحلم. وفي هذا الحلم، يخامرني إحساس بالنشوة”.
هكذا يرنو الراوي إلى ماضيه من خلال عدسة ضبابية. لا ينم صوت عن حنين إلى تاريخه والذكريات ترف عليه، بل إنه يوحي بقدر من الحكمة بأثر رجعي وإن كان ينسى بعض الأحداث، لتقدم عمره أو لكراهيته اجترارها.
يطلعنا الراوي بأن الصبي رغب ذات لحظة في أن يجرِّد نفسه من ماضيه، وأن ينزع عن روحه غرامها، إذ هناك مستقبل بلا معالم يتهدده. وفي النهاية تتحطم آماله على شاطئ الحب، ويتجرع غصص الأسى عندما تختفي الجميلة عن الأنظار لتصطبغ هذه الرواية بصبغة الروايات البوليسية. فلا يكاد المراهق يستوعب ما جرى لعلاقة وأدها القدر في المهد.
إن “سيركٌ يَمرّ” أشد روايات موديانو قتامة، وشخصياتها ما فتئت تحتجب وراء دوامات من دخان السجائر.
يسلط موديانو الضوء على توهج الحب وسذاجته، وفي الوقت ذاته على عثراته ومثالبه. فتفوح من الرواية روائح الشك والحيرة، وتنتثر فيها شظايا من الألغاز، وموديانو أستاذ الألغاز. من هي هذه المرأة؟ ولِمَ كانت الشرطة تستجوبها؟ كيف أقنعته بارتكاب الفعلة؟ أين راحت؟
فسيفساء من الأسئلة غير أن الصورة الكاملة لن تتضح قط. والأسئلة قد تفسر جانباً من حياتيْ المراهق والمرأة غير أنها تغلق علينا جوانب أخرى.
يصارع الحبيبان حياتيهما الملغزتين وحيوات الآخرين. والكل يعد عداً تنازلياً وصولاً إلى الموت، إذ نلمس شعورا بتراجيديا وشيكة تدنو وبعدها ينفض اللغز. وتباغتنا النهاية، بزخمها العنيف، بكونها دون أي تفسير من أي نوع. التهديدات الهلامية تغدو حقيقة، والذكريات تنفصل عن الواقع فيما تلعب الذاكرة ألاعيبها فتتشوه أفكار الراوي الماضوية عن الحميمية والريبة.
التعليقات مغلقة.