هيمنغواي يكتب واقفا وقباني متأنقا وأوستر بقلم الرصاص

53

العرب اللندنية- Buyerpress

لكل كاتب لحظة مميزة أو علامة، يهتدي بها لدخول عوالم النص الإبداعي. فمثلا يروى عن الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري أنه في لحظة كتابة القصيدة كان يقوم بغناء المقامات العراقية القديمة وهو جالس في الحمام.

وتعتبر الروائية إيزابيل الليندي الثامن من يناير يوما مقدسا للكتابة، فتضيء الشموع، وتشعل البخور لتبدأ الكتابة بطقوس مميزة. ويفضل الكاتب بول أوستر الكتابة باليد، بقلم جاف أو رصاص وفي كراسات لا في دفاتر أو أوراق منفصلة. أما الشاعر الراحل نزار قباني فلا يكتب إلا عندما يكون في منتهى الشياكة والأناقة كأنه مستعد للقاء حبيبته.

ضرب من الوهم

تقول الروائية الجزائرية سارة النمس إن العادة الأولى في الكتابة، والتي تعدّها قاعدة ذهبية، هي مقاطعتها الكتابة حتى تطلبها وتأتي إليها، مثلما لا يمكنها إجبارُ نفسها على الأكل أو الشرب والحاجاتِ الأخرى، هي لا تجبرُ نفسها على الكتابة وإذا فعلت تكون النتيجة نصوصا رديئة وفصولا ضعيفة، لذا لا تجلسُ إلى الطاولة أبدًا لتنتظر الفكرة. الفكرة هي التي تصطادها أثناء التسوق أو القيام بعملها، بينما تعدّ وجبتها أو تنظفُ بيتها. حينها تترك ما في يديها وتمشي كالمسرنمة ولا همّ في رأسها سوى كتابتها.

تضيف النمس “بالنسبةِ إلى طقوسي الخاصّة ليست هنالك أي طقوس غامضة أو غريبة للكاتبة إلا ما يتعلق بتفاصيل شخصية صغيرة، مثلاً أكرهُ الكتابة أمامَ شخص يراقبني سواء في البيت أو الأماكن العامة. أفضّل أن أكون بمفردي لأكتب، وأنتقي موسيقى أسد بها أذنيّ لأعزل نفسي عن العالم الخارجي، أضع مشروبًا إلى جانبي أرتشفه من حينٍ إلى آخر، ألبس ثيابًا مريحة وألمّ شعرِي كي لا يضايقني وأنشغل بهِ. ثم أبدأ الكتابة وخواتمي في أصابعي”.

يعتقد الروائي الإريتيري أبوبكر كهال أن ممارسة نوع أو أنواع مركبة من الطقوس في لحظة الإبداع هي محاولة لحشد “عدّة” المعركة، ولأسر تلك العوالم من الكلمات المتمنعة والجمل العصية. قد لا تكون لهذه الطقوس كل تلك المقدرة السحرية المفترضة على مدّ الكاتب بالمدد، ولكنها قد تلعب دورا في الإيهام بتحفيزه ومساعدته على الجلوس كل تلك الفترات الطويلة إلى طاولة الكتابة. إذن وجود عادة ممارسة الطقوس -وهي غير ضارة على كل حال – في حياة المبدع حتى وإن كانت ضربا من ضروب الوهم لا بأس به.

يتابع كهال “على الصعيد الشخصي ليس لدي ما يمكن تسميته بـ ‘طقوس الكتابة‘ فقد كتبت معظم أعمالي دون ورود هذا الترف إلى خيالي، خاصة روايتي الأخيرة ‘تيتانيكات أفريقية‘، حيث كنت واقعا تحت قوة ضغوط سالبة كثيرة تتعلق بالحياة في حد ذاتها. وكل ما كنت أحرص عليه في السنوات السابقة عندما كنت مدخناً، قبل أن يتدخل صديقي الأديب والدبلوماسي الليبي حسين المزداوي ويجعلني أكره ليس السجائر فقط بل رائحتها أيضاً، هو ضمان عدم نفاد مؤونة سجائري خاصة في الليل، وهي الفترة التي أحبذها للقراءة والكتابة”.

الطقوس جنون

لازمت الشاعر المصري عيد عبدالحليم طقوس خاصة بالكتابة الإبداعية منذ مرحلة مبكرة، وظلت معه حتى هذه اللحظة، لعل من أهمها أنه يحب الكتابة على الورق غير المسطر، لاعتقاده أن ذلك يعطي مساحة أرحب للكتابة. رؤية السطور تقيده لحظة كتابة القصيدة.

يقول عبدالحليم “تعودت كتابة القصيدة مرة واحدة، والإضافات -أو عملية الحذف- تكون قليلة بعد ذلك، أحب الالتزام بلحظة الشعور الأولى، ربما لأنني لا أحب الذهنية كثيرا في كتابة الشعر. كما أحرص أحيانا على التدخين بشراهة عند تدوين القصيدة، وأكتب في أغلب الأوقات وسط الضجيج والزحمة، رغم أنني بطبيعتي أميل إلى الهدوء. غالبا ما يأتي الشعر في لحظة الانشغال بأعمال كتابية أخرى في مجال عملي الصحافي، فأترك ذلك العمل للحظات وأدون القصيدة على هوامش الورق. لا أحب تدوين الشعر على جهاز الكمبيوتر إلا بعد أن يكتمل على الورقة، فالورق من وجهة نظري يمنح الشعر حياة جديدة، أعتقد أن الكتابة الإلكترونية لا تخدم الخيال الشعري كثيرا، هي وسيلة للنشر فقط، فمازالت القصيدة تحيا في محيطها الأول”.

يتابع الشاعر “عند الكتابة دائما تتملكني حالة من التأمل لا تنتهي بانتهاء الكتابة، بل تستمر معي لفترة حتى أطمئن وتستقر القصيدة في شكلها النهائي. أنحاز أحيانا إلى الكتابة في الطرق والشوارع، وبين الناس، وأحيانا أضع نفسي موضع المساءلة، هل استطعت أن أعبر عن هؤلاء الذين يمرون في الزحام؟ هل استطعت أن أقترب من إحساسهم الداخلي بالحياة؟ ربما لأنني مشغول دائما بسؤال وجودي حول جدوى الكتابة، هل هي حالة من الإفضاء الروحي، أم اقتراب أكثر من الحياة اليومية؟ أعتقد أن رهان القصيدة الجديد مرتبط بالإجابة عن الكثير من الأسئلة الوجودية”.

ويلفت ضيفنا إلى أن طقوس الكتابة الخاصة قد تكون وهما لكنها عادة جيدة، والإبداع هو ابن الوهم. من جماليات هذا الوهم أنه يتحول إلى واقع ملموس تزينه الكلمات، والكتابة عنده تأتي دفقة واحدة، حتى عندما كتب مسرحيات شعرية، لم يكن ينام حتى تنتهي المسرحية. وهذا أيضا ينطبق على كتاباته النقدية والفكرية والصحافية.

يعتبر الناقد الليبي فتحي نصيب أن مصطلح “طقوس” مشحون في الذاكرة الجمعية بالكثير من الدلالات التي تحيل إلى بعض السلوكيات المتبعة لتحويل هدف “متخيل” إلى واقع ملموس. ويتساءل هل ينطبق هذا على فعل الكتابة؟ ليقر بأنه من خلال قراءاته لسير الكتّاب، وأيضا من خلال صداقته ببعض الكتاب العرب تبين أن ثمة “عوامل مساعدة” تهيئ المناخ المناسب للكتابة، الإبداعية على نحو خاص، بمعنى آخر لا يمكن أن تقع هذه العوامل تحت خانة “الوهم” لأن الإنسان -في أي مهنة- يلجأ أحيانا إلى توفير مناخ مناسب كي ينتج على نحو أفضل. ويستحضر الناقد هنا تجربة قام بها أحد المصانع الأوروبية تتلخص في زيادة كمية الإنارة التي أدت بدورها إلى زيادة الإنتاج، مع ثبات العوامل الأخرى كالمرتب والإجازات وساعات العمل.

يتابع نصيب “فيما يخص الكتابة الإبداعية فإن لكل كاتب مناخه الخاص المرتبط بتجربته الحياتية والتي لا يمكن تفسيرها منطقيا، فأنا أعرف صديقا كاتبا لم يكتب طوال حياته إلا بقلم الرصاص، وآخر لا يكتب إلا في المقاهي حيث الصخب والضجيج، وثالثا لا يكتب إلا وهو جالس على الأرض، كيف ولماذا؟ لا أحد يستطيع الإجابة لأن الأمر كما أسلفت لا يخضع للمنطق. أما فيما يخصني فإنني -حتى كتابة هذه الأسطر- أفضل الكتابة بالقلم والورقة ولا أشعر بمتعة الكتابة على الكمبيوتر مباشرة كما يفعل البعض. كما أنني لا أكتب إلا في مكان منعزل وهادئ مع توفر كمية كافية من التبغ وبضعة فناجين من القهوة مع الموسيقى وإضاءة جيدة، وأَفضل أوقات الكتابة ليلا بينما النهار أخصصه للقراءة فقط”.

يضيف “أذكر هنا تجربة طريفة وظرفية إلى حد ما وهي أنه طوال عدة سنوات عندما كنت سجينا سياسيا ومنعت عنا الأقلام والأوراق لجأت -كما بعض رفاقي- إلى ‘الكتابة في الرأس‘ أي أكتب قصة من بداية العنوان إلى الخاتمة في ‘رأسي‘

وأنا مغمض العينين متخيلا الورقة أمامي والقلم في يدي. أكتب وأشطب وأحذف وأضيف وأنقح، وفوق هذا أحفظ ما أكتب في الذاكرة وبعد عدة أيام أقرأه على الأصدقاء، والغريب أن الشكل النهائي يظل في الذاكرة. كيف ولماذا؟ لا أعرف حتى الآن. من هذه التجربة الفريدة والغريبة يمكن القول إن بعض العادات المرتبطة بالكتابة ليست قانونا ثابتا، فالإنسان قادر على تكييف نفسه في أكثر الظروف تطرفا”.

التعليقات مغلقة.