عسكرية ‘المناطق الأربع’ تعيد سوريا إلى نقطة ‘صفر سياسة’
علي العائد
أوهام تقسيم سوريا انطلاقا من التوقيع على فرضية “المناطق الأربع الآمنة” في أستانة لا يمكن أن تقنع المراقب لتسلسل الأحداث في سوريا بجدوى هذه “الاتفاقية”، ليس فقط لتهافت ضمان إيران وروسيا وتركيا لسير يوميات تنفيذ هذه المناطق، وإنما من استحالة تنقية النص الذي أعلن عنها، وعدم التفريق بين السياسي والعسكري فيها. وهنا لا أهمية لعدم وجود إجماع من أطراف الصراع على الاتفاق. وحتى بوجود مثل هذا الإجماع لا ضمانات عملية لتنفيذ هذا الاتفاق.
سياسيا، أهمل “الاتفاق” قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 (18 ديسمبر 2015)، رغم الإشارة إليه، بينما لم يلحظ الاتفاق وثيقة جنيف لعام 2012، التي تتحدث عن مرحلة انتقالية لا دور للنظام الأسدي فيها. وهذا يعني أن روسيا وتركيا وإيران اتفقت على البدء في حل الصراع في سوريا من الصفر.
أما احتجاج أطراف في الجيش الحر المشارك في أستانة على عدم قبول إيران كضامن للاتفاق فيبدو عاطفيا، كون النظام الأسدي نفسه يعتبر ضامنا للاتفاق حتى دون توقيع، وهو أكثر إيرانية من إيران تجاه الشعب السوري. ثم إن أجزاء كبيرة من بعض المناطق الآمنة الأربع هي تحت يد النظام، ولا معنى لتسميتها بهذا الاسم مادام الجيش الحر لا يملك سلاح الطيران.
فالمناطق الآمنة تكون آمنة، في الشمال والجنوب والوسط، عندما يتم تحييد الطيران. وإذا لم يلتزم الجيش الحر والفصائل المعارضة بالاتفاقية المفترضة، عندها سيقصف طيران النظام الأسدي والطيران الروسي المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر.
الوهم الأكبر الذي يتطير منه سوريون على وسائل التواصل الاجتماعي هو تقسيم سوريا. وهو وهم لأنه لم يتم حتى اليوم، ولم يتم منذ 2013، عند صعود نجم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وسيطرته على معظم شمال سوريا، ونحت أسماء كردية لمناطق أقل ما يمكن وصفها به “متنازع عليها”، حتى لا ندخل في جدل “الأرض التاريخية” لهؤلاء، أو أولئك.
كما أن التراجع الدراماتيكي لقوات النظام في ساحات الصراع في عام 2012، وصعود فكرة انسحاب النظام في اتجاه الساحل عام 2013 لتأسيس “دولة علوية” هناك، لم تجد لها محلا في الواقع.
وفي الأصل، لا أحد من طرفي الصراع السوريين يتجه لاقتسام الأرض في سوريا، فكل من النظام وحلفائه، والمعارضات وحلفاؤها، “يرغبون” في استقرار سوريا على حدودها الحالية، فضلا عن عدم ثبوت وجود رغبة دولية لتقسيم المقسم في سايكس بيكو.
وأسوأ السيناريوهات المتوقعة قبل استقرار “حكومة اتحادية”، مع النظام الأسدي، أو دونه، ستكون مناطق نفوذ لفترة يمكن وصفها بالمتوسطة. وقد يلي هذه الفترة ظهور “بطل من هذا الزمان” يعيد توحيد مناطق النفوذ تحت سلطة سياسية مركزية تتجاوز كل مفاعيل فوضى ما بعد مارس 2011.
وعلى ذلك، يمكن تفسير “صقورية” بعض ممثلي الجيش الحر في أستانة بالفعل غير الواقعي، كونهم اعترضوا على توقيع إيران فقط من بين الدول الضامنة الثلاث، دونا عن روسيا الضالعة في المشكلة، ودون أن يحتجوا على عدم وجود توقيع للجيش الحر، أو توقيع للنظام.
والاتفاق المفترض أن يبدأ تطبيقه السبت 6 مايو لن يساهم بأكثر من 50 بالمئة من نسبة تخفيف حدة النزاع، حسب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي الأصل، لم يوفر اتفاق وقف إطلاق النار منذ بداية هذه السنة نسبة تزيد على نسبة بوتين هذه، ما يعني أن أطراف النزاع تملك فرصة متابعة القتل، بالفعل أو برد الفعل، خاصة أن الأطراف الضامنة، بمن فيها تركيا، هي شريكة في القتل، وهي جزء من المشكلة، حيث لا تبدو ظروف ضعف الفصائل المعـارضة كـافية حتى اليـوم ليفـرض عليها الضامنون الحل الذي يريدون.
والمناطق الأربع التي تحدث عنها “الضامنون” تشمل (محافظة إدلب وجزءا من شمال حلب، ويُفترض أن نفوذ تركيا هنا يعطيها صفة الضامنة)؛ و(منطقة الرستن شمال شرق حمص، وتتنازع الضمان فيها إيران وروسيا، للجم النظام على الأقل)؛ و(ريف دمشق وتضمنه روسيا وإيران بالتعاون مع النظام)؛ و(غرب درعا وجنوبها، وتضمنه روسيا، بلجم النظام، وبالتعاون والتفاهم مع إسرائيل في اتفاق غير منصوص عليه).
هذه الخـارطة غير الـواقعية، كـون المناطق الأربع غير متعينة جغرافيا بدقة، تجعل احتمالات الخروقات مرجحة من الطرفين، فأي إطلاق نار من الفصائل المعارضة المشاركة في أستانة، أو غير المشاركة، سيفجر الوضع، وسيكون الرد الروسي، خاصة، باستخدام الطيران، ما يعني نسف أسس فكرة المناطق الآمنة من جذورها.
مع ذلك، يبدو أن صمود الاتفاق سيكون أخطر استراتيجيا، بالقياس إلى حدود سايكس بيكـو التي حملت عناصر متفجـرة لم يتم حلها، أو تفجيرها، حتى بعـد مئة سنـة من الاتفـاق، فتثبيت مناطـق تـوتر بـاردة بين المتقاتلين قد يكرس ستاتيكو جغرافيا عسكريا ممهدا لاحتمال تبادل سكاني بين المناطق، وتهجير سكاني على غرار ما جرى في حمص (الوعر)، وفي الزبداني وكفريا والفوعة، وقبل ذلك في المعظمية وداريا.
لكن الأمر الجيد الوحيد المتوقع من الاتفاق هو قتل أقل يتيح لسكان المناطق الأربع العودة إلى الحياة من جديد، على الرغم من أن هذا سيتيح لسلطات الأمر الواقع، في إدلب خاصة، تثبيت مواقعها. فالاتفاق لم يحدد الفصائل المعارضة المستثناة من غارات الطيران الروسي، وغارات طيران النظام الأسدي، إلا من حيث عموم الإشارة إلى “هيئة تحرير الشام” (النصرة)، وتنظيم داعش.
وتبقى نسبة مساهمة الاتفاق بـ50 بالمئة من تسوية الصراع السوري، على لساني بوتين ورجب طيب أردوغان، نسبة اعتباطية، مثلها مثل سردية نسبة تقاسم الأرض المتداولة (داعش 35 بالمئة، قسد 25 بالمئة، النظام 23 بالمئة، المعارضة 17 بالمئة)، فهذه النسب تتغير بشكل دائم، على الرغم من الاستقرار النظري للهدنة خلال أكثر من أربعة شهور في العام الجاري.
وتعكس الترجمات المختلفة للغاية من المناطق الأربع بين “مناطق آمنة”، و“مناطق تخفيف التوتر”، و“مناطق تخفيف التصعيد”، دون أن تتطرق إلى وجود مناطق “محرمة على الطيران الروسي والأسدي”، حالة تجريب خطة جديدة لاستغـلال حالة ميل ميزان القـوة إلى النظـام وحلفائه، خاصة أن الخيارات الأميركية تقتصر على “إزعاج” النظام الأسدي بعد قصف خان شيخون بغاز السارين، وعلى “استعداء” داعش دائما.
وما يُعاب على أسس صياغة “اتفاق وقف إطلاق النار”، يُعاب على “اتفاق المناطق الأربع”، فقوائم الفصائل المصنفة إرهابية مختلف عليها بين أطراف الصراع، والداعمين، والمحايدين.
كما أن عدم شمول المعادلة ثلثي مساحة سوريا في اتجاه الشرق يجعل “قوات سوريا الديمقراطية” وداعش خارج معادلة “مناطق تخفيف التصعيد”، بما يبدو أنه محاولة لتركيز الجهد العسكري لاجتثاث تنظيم داعش باستغلال الجهد الكردي المراهن على استحقـاقه مكـافأة أميركية بعد إنجـاز المهمة.
وتبقى هنا ضرورة الإشارة إلى التصريح التقني الروسي الذي ينص على وجوب التزام الجيش الحر، المنزوع الطيران أصلا، بالاتفاق، حتى يأمن من غارات الطيران الروسي الأسدي على مناطق هذه الفصائل.
هذا، بينما ألمحت مصادر روسية إلى أمر تقني غير منصوص عليه في الاتفاق يُغلق المجال الجوي أمام طيران التحالف الدولي، أي الطيران الأميركي على الأغلب، مع السماح لطيران التحالف، عموما، بقصف مناطق داعش في الرقة ودير الزور.
العرب اللندنية
التعليقات مغلقة.