المكان / محمد يوسف

26

index

 

 

 

 

 

يفتح الإنسان عينيه على بيئة تحيط به, ويضع قدمه ليخطو الخطوة الأولى على بقعة من الأرض تُعَرف بالمكان,ثم يبدأ بالتعرف بشكل جيد على ما حوله, يتعرف على بيته, قريته, مدينته,ترابه … ثم يتعلق بهذا المكان تعلق الروح بالجسد, يحمله معه أينما حل وأياّن ارتحل, يتعلق به ويحافظ عليه من الضياع أو الفقدان,ويعمل جاهداً على عدم الإفراط به أبداً ولكن – وفي لحظة تأمل, وبحسابات خاطئة – قد يفقد هذا المكان – بكل ما يحمله من مشاعروذكريات- في لحظات أو ثواني, ولكن استرداده قد يطول عشرات السنين أو عقوداً أو قد يموت الإنسان ولا يراه ثانية, وتظل ذكراه ناراً تحرق قلبه ألما على فراق ذلك المكان وفقدانه. إننا نعيش الآن في عصرٍ لم يعد فيه للجهل واللامبالاة عذر.. والإفراط بالحقوق هو قبل كل شيء إفراط بالمكان الذي ولدنا فيه وترعرعنا فيه يوماً بعد يوم, إفراط بالمكان الذي شربنا فيه أول قطرة ماء, تعلمنا فيه نطق أول الحروف,تعرفنا فيه على أول ابن /ابنة جيران, شكلنا فيه أوّل صداقة, وأول دخول إلى المدرسة, دخلنا أول حقل أكلنا من ثماره, هذا المكان الذي صار قطعة منّا – كما أسلفت –ومنحنا الحياة والعمل والعقيدة.. لذا علينا أن نستميت للحفاظ عليه, لأننا بفقدانه نفقد شخصيتنا, نفقد آمالنا, نفقد ذكرياتنا, نفقد أنفسنا. نعم, إننا الآن نمر بظروف صعبة, ولكن متى كانت ظروفنا غير صعبة,فمنذ طفولتنا كان لزاماً علينا تعلم أبجدية لغة غير لغتنا, أن نحب ألواناً غير مألوفة لنا, ونرفع شعارات غريبة لم تمت بأية صلة إلينا في أية لحظة زمن.

كنا نسرد أحلامنا وحكاياتنا في اللاشعور, في عقلنا الباطن حتى نستطيع أن نسرق من الزمن لحظات نستمتع بما يجول في داخلنا ويدغدغ مشاعرنا. قطعة الأرض التي ولدنا عليها, والحقل الذي عملنا فيه, أستولى عليها غريب عن ديارنا,وهو- الغريب – الآن يتمرغ ويندم على تركه المكان الذي ولد فيه.من هنا لابد من التمسك بما هو لنا والتشبث به بكل ما أوتينا من قوة, علينا أن نعمل بأقصى طاقة,ونقاوم كل الصعبات وليكن شعارنا حب المكان .. حب الأرض . فبهذا الحب يمكننا التخلص من أنانيتنا,وبهذا الحب نستطيع أن نبرهن لغيرنا أننا أصحاب حق, أصحاب إرادة…. بهذا الحب نستطيع أن نغرس في نفوسنا شيئاً من إرادة “المهاتما غاندي” عندما وعد والدته بأن يصبح نباتياً. ومتى ؟ عندما غادر الهند, المستعمرة الفقيرة, إلى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وهي في أوج عظمتها في العصر الفيكتوري.. غاندي الذي حرم نفسه من كل مغريات لندن لأجل أرض الهند والشعوب الهندية, حتى استطاع أن يغرس مفهوم الحب واللاعنف,والتشبث بالحق وبالمكان .. وأن يطرد الإنكليز من أرض بلاده, وظل شعبه – كما ظل هو – شامخاً في مكانه.

التعليقات مغلقة.