ثنائية عقلنة الثقافة والسياسة / فرمان بونجق
بنيوياً، نشأت الثقافة ارتكازاً على الأداء الاجتماعي، وتالياً كانت إفرازاً لتراكمات التفاعلات الاجتماعية، وكانت خلاصتها ورديفها، منذ بدء الخليقة، ولكن سرعان ماتم استدراجها للصراع السياسي، كإحدى الأدوات المخملية للسلطة، أو للقوى الساعية إلى السلطة، بنيّة حكم المجتمعات البشرية. أيّاً كانت الغايات ــ نبيلة أو وضيعة ــ من هذا الحكم، وأيّاً كانت طبيعة هذا الحكم. شريطة أن تؤدي الثقافة، أو المثقفدوره في الحركيّة السياسية للسلطة، وترويج ما يمكن الإماطة عنه، بأبهى أشكاله وصوره المبتغاة،ومنذ أمد غير قريب دأبت المجتمعات البشرية على صناعة الثقافة الموازية للسلطة، حيناً، والمناوئة لها، حيناً آخر، وباعتبار الثقافة ذلك المنتج الذي يؤسس للسلوك السياسي، بشكل أو بآخر، وأداته المثقف ــ بمقاييس عصره ومرحلته ــ عبر تكريس النهج الذي يتم توظيفه لأدوات السلطة، فقد حاز المثقف على اهتمام الخاصة والعامة, خوفاً واستدراءً، أو تزلفاً.
وعلى الضفة الأخرى حاول المثقف أن يكرس مقولة أن الثقافة جذر معركة الحياة، وتناميها، على كافة الأصعدة والمستويات، مما منحه مكانة النبوءة لدى فئات مجتمعية واسعةفي شرقنا المتحول، والمتغير، والذي انتفت عنه شروط ومعايير الاستقرار، بدأ المثقف متوتر المزاج، متقلب الأهواء، متأرجحاً بين ما كان، وما يكون، وما سيكون، هاربا حيناً ومتقوقعاً على الأنا، ومحارباً جسوراً حيناً آخر، ومهادناً خاملاً في أحايين كثيرة، وكذا الحال مع نتاجه الثقافي القلق، والذي يشي ــ أي هذا النتاج ــ بالصدامات الكبرى التي تجري داخل المجتمع، وداخل العقل الثقافي، إن جاز التعبير، بعضها مرئي، والآخر كامن تحت السطح، مما يعكس رؤاه المتباينة، طبقاً للحالة الآنية، واللحظية، التي تفرزها هذه الصدامات الدراماتيكية المتلاحقة على أرض الواقع، وهي صدامات غيرعاقلة على الإطلاق.
إنَّ كون المثقف تائه، فهذا يؤشر إلى أنَّ المجتمع ــ بشرائحه ــ تائه، لطالما كانت الحالة الثقافية العاكس الحقيقي، للحالة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية. وينتفي والحال هذه عن المثقف دوره التشخيصي المرتبط بالتحول المجتمعي ككل. ويبرز شكل آخر من أشكال المثقف غير المتفاعل مع بيئته، ووجدانه، وغاياته الوظيفية، وقد لوحظ مؤخراً تعرض المثقف لموجة من الانتقادات من قبل العامة، ومردُّ ذلك ــ بتقديري ــ إلى حالة الفرار التاريخية التي يمر بها نفر غير قليل من المثقفين. حيث يلجأ البعض إلى تدوين الشعر، وتوثيق مشاعره العاطفية الشخصية، من خلال أسوأ تجربة من تجارب الإبداع الشعري، المنفلت إلى فضاءات العشق الموجوع بتقبيل الشفاه، وتمسيد خارطة الجسد، دون حياء.
إن أسوأ شكل من أشكال المثقف، والذي برز إلى السطح في هذه المرحلة، هو ذاك المثقف المنحاز لفئة دون أخرى، ولطائفة دون طائفة، ولحزب دون حزب، وهو بذلك لايرى إلا جزءاً من الحقيقة، تلك التي ينحاز إليها، بصفتها حقيقته المطلقة، والتي تغيّبُ عنه الوجوه الأخرى للحقيقة، المتنافية مع ناموسه، أيّاً كانت. متجاوزاً الحالة الإنسانية ، الموءودة في داخله، مُذ أن نصَّبَ نفسه والياً وقيّماً على الذاهبِ والآيبِ الثقافيّ.
التعليقات مغلقة.