تأمـّل..!

49
17275015_1598365230178317_898750580_n
هيلين محمد المرفوع

هي المرة الأولى التي أستيقظ فيها على هذا الصمت.. الصمت الذي كان سبب سعادتي بداية قدومي إلى هذا البلد,  لاعتقادي بأنه أنقذني من ضجيج صباحات الوطن، فالصباح يكون صاخبا هناك.. أصوات أطفال يلعبون أمام الباب.. بائع جوال تجتمع حوله  نساء الحي.. والكثير من الضجيج الذي ربما كان يدل على بداية يوم جديد..

أما هذا الصباح الهادئ فليس له أية دلالات أو معان،هادئ، واجم فحسب، لا روح في هذه البداية اليومية لحياتي، أنظر إلى النافذة أرى هذه الشوارع المنسقة التي أذهلتني بروعتها عندما قدمت إلى هنا.. أجدها خالية مغطاة بالثلج والصقيع وكأن لا بشر في هذا المكان.

كالعادة أخذت نفساً عميقاً وبدأت بتقليب صفحات الانترنت.. ثم انتقلت للتلفاز، أشعرني ذلك بالرضى،  فالكهرباء هنا لاتنقطع، ولكن يبدو وكأن هذه النعمة لم تعد في عيني كما كانت أتذكر، هناك كنت أجلس في فناء الدار فيتجمع الجيران بقصصهم المضحكة والمبكية، ويأتي بعض الأطفال للعب والصخب، وصوت الضحك يملأ المكان، ربما كان يفعل ذاك الشعور أكثر مما تفعله الكهرباء بآلاف المرات ..

 مالا عدت أحتمل، بدأت أشعر بالإختناق، وهذا الصمت المريض بدأ يكتم على صدري، هممت بالخروج ، خرجت للشارع التفتّ هنا وهناك.. لا شخص أعرفه يمرّ, لأرفع يدي لإلقاء السلام عليه، ولا أحد لأهمس في أذني صديقتي للتحدث عنه، الكل هنا منشغل بالعمل وكأنهم أصبحوا جزءآ من هذه الآلات التي تشغلهم، هذه المحلات أنيقة وبراقة، أدخل لهذا المحل وأخرج من ذاك، ولكن أفعل ذلك أيضا بكل روتين.

 في مدينتي لم يكن التسوق هكذا، كان له متعة خاصة، ليس بسبب السلع التي كنت  أقتنيها فربما، فقد تكون هذه السلع أجمل وأكثر جودة، ولكن هناك كان للتسوق معنى آخر، كنت أتحدث مع هذا لأنه جاري، وأتناقش مع ذاك لأنه صديقي من أيام الدراسة ، وذلك المحل الصغير المبعثر الأغراض، كان البحث بين تلك الكركبة فيه شيء من المتعة…

هنا.. كل شيء متوفر، ولكن بنكهة جامدة، لا مذاق للذكريات ولا للقصص ولا للحكاية. هنا كل شيء  برّاق وملون، ولكن بدون روح, أو نكهة لماذا هذا السكون في هذا المكان، ها قد جلست، جلست هنا أمام هذه الحديقة الملونة، جلست لساعات مطولة أنظر، كل شيء فيها يشبه الحديقة التي جلست فيها المرة السابقة، ليست لي أي ذكرى في هذه ولا في تلك فقط جمالها الذي أذهلني للوهلة الأولى مع جلوسي فيها مطولا، لا أجد فيها ما يغير ما بداخلي هذا الشعور الدائم والحنين  للعودة…أريد العودة لتلك الشوارع المتعرجة المتكسرة المليئة بذكرياتي وقصصي وضحكاتي أريد العودة لضجيج جيراني المزعج وصوت البائع الجوال الحاد، أريد أن أرتمي في أحضان أمي حين أبكي، فأرتاح، وتهرب الهموم مني، أريد العودة لحديث عجائز بلدي المسلي أريد وأريد وأريد…..

هنا في هذا السكون والروتين والعمل والمال.. هنا في هذه البلاد الجميلة التي بات تكرار المناظر لا يفيد، بدأت السنين تتوالى واحدة تلو الآخرى، أصبح لدي ما يكفي من المال لشراء منزل وسيارة والكثير، ولكن أولادي كبروا هنا يتحدثون بلغتهم… يعيشون حياتهم، بلادي لا تعنيهم بشيء فلم  يذوقوا خبزه،  ولم يشربوا من مائه الصافي الذي هربت مطولا لنسيان لذته.. ولكن دون جدوى، لا مذاق مثل ذاك  المذاق، لعل خيانتي لذلك الماء وذاك الخبز.. لرائحة التراب مع تساقط حبات المطر. لعل جحودي ونكراني لأيام طفولتي الباسمة ومراهقتي وشبابي الحيوية، لعل خياناتي القبيحة بدأت أدفع ثمنها الآن والثمن أغلى من تصوراتي ، أفنيت عمراً في حياة لاتشبهني لأجل أولادي الذين لم يعودوا يشبهونني أيضا، أصبحت غريبة أرض وعائلة، لن يحتضني الوطن مجددا، لأني لم أحتضنه وقت حاجته لي.

 رحلت باحثاً عن حضن آخر، هو الآخر لم يضمني لأنني خائن في نظره، هو الآخر، ها أنا هنا أحضر وألتقط آخر أنفاسي أغلق عيني وأتذكر … وأتذكر..وأعود إلى هناك.. .ولكن يبدو أن الوقت انتهى…. .. لقد رحلت…. إلى الأبد

التعليقات مغلقة.