وحشة الأحفاد
طه خليل
الحفيدة الأيوبية إذ مرّ هواها علي الروح خفيفا كهواء عال، وبسرعة الذئب، لم تكن ترسل هواها على هواه، ظنا أن الكرد لا يعرفون العشق، والأيوبية لا تعرف كيف حرر أجدادها البلاد بالحبّ والسيف، وكيف اندحر الصليبيون أمام رجال يفتخرون بطول شواربهم، وحواجبهم المقرونة، دهاة لا يدرك أغوارهم، لقد أعجمتهم الدهور، لكنهم ما برحوا يتساقطون في جحر عشرين مرة، ولا يتعظون، أصحاب يقين، وفقه، فلم يرسل من بينهم نبي لهم، يرشدهم إلى مسالك ومراتب تقربهم من الآلهة، ظلوا على مرّ الدهور يرشدهم أنبياء من ملل أخرى، حتى عافت نفوسهم مللهم، وتطيروا من بعضهم بعضا، ففضلوا الأبعدين على الأقربين، ونحر بعضهم بعضا، وجزوا رقاب بعض، تحت صليل سيوف تخص أنبياء غرباء عنهم، عنيدون حتى مشاشة روحهم، ويفتخرون بعنادهم الموسوم بالغباء، عنادهم الذي يدفعهم للإبادة، لا سبب مقنع لحبهم، وكرههم لا سبب له كذلك، إنهم أكراد وهذا كاف لكي يقوموا بحروب في هذه الدنيا، حين يشعلون الحروب من أجل الآخرين ينتصرون، فهم رجال أكفاء، شديدون في الضرب، سريعون في سحب اليد، حوس في الحرب، لا يبرحون خنادقهم، حتى تهرشها مجنزرات الأعداء، وعندما يشعلونها من أجل أنفسهم، يخيس بذممهم الحلفاء، وتزهف بهم ظهورهم، فتنتكس راياتهم، ويخسرون، وتنكسر شوكتهم ويتقهقرون عشرات السنين للوراء.
وهذه الأيوبية لا تعرف كذلك، أن جدها الأكبر صلاح الدين هو الجد الأكبر لي أيضاً إلّا أن الجد لم يدوّن هذا في مواثيقه وصكوكه الإسلامية، بل ترك كل شيء مباحاً لقريحة المؤرخين العرب والإسلاميين والذين أشهروا سيوفهم فيما بعد وجزّوا به رقاب المارقين من أبناء وأحفاد صلاح الدين العاقين، والذين اكتشفوا بعد عدّة قرون أن لهم قامات لا تتوافق مع طبائع الصحراء، وشوارب لها مقاسات أخرى، شوارب يفتلونها، ويقسمون بها أن جد الجد، ومن أجل شعرة منها يقتلون ثلاثين رجلا، لأن أحد منهم قد سخر من شوارب الآخر، أو قال له،” تفو” على شواربك، شوارب كثة، وحواجب كثة، وشعيرات تتكاثف في آذانهم كلما تقدم بهم العمر، شعرهم يميزهم من الآخرين، يتهدل لحم حواجبهم في الكبر، وتتكاثف أشعارها، حتى تظن أن الطيور تضع بيضها هناك، كأعشاش لربيع يفتقده الكرد منذ أن وجدوا على وجه الأرض، وأنوف كبيرة مفلطحة تبدو على وجوههم كعلامات فارقة تدل الدول والعسس عليهم أينما ذهبوا، وأنى توجهت بهم الأقدار، أكراد تأخروا عن كل شيء، كانوا مشغولين على مرّ الزمان بقطعان أغنامهم، وتربية الماعز الجبلي، حتى استوطنت الأقوام الأرض وأخذوا بلادهم منهم وهم راضون، تركوا بسيط الأرض واستوطنوا الجبال على الدوام، وضحك عليهم الملوك والأمراء على مر الزمن، وغشهم كاتبو السلالات البشرية، إذ أقنعوهم أن لا أصدقاء لهم سوى الجبال، فتركوا رياض الأرض كلها وتركوا مزارعهم وساحاتهم وبراريهم الشاسعة لأغنام البدو ولصوص الترك ورحالة الفرس، واستوطنوا الكهوف والمغارات باحثين عن مجد جبال تحطمت عليها سفن الله ورسله، وبعد أن استفاقوا من غلالات ليلهم، وكثرت ثلوج الجبال، هبط نفر منهم ليطلع على أحوال البسيط من الأرض فوجدوا أن الآخرين قد عمروا عليها دولا ورفعوا أعلاما ملونة بألوان لاتتناسب وطبائعهم الحارة، فأعلنوا الحروب متأخرين، وكانوا كلما اقتربت حروبهم من نهاياتها السعيدة، خرجت عليهم الدول، وخانتهم، فيخرجون على بعضهم بعضاً، ويتلذذون بالخيانة، كما لو أن القهر والخيانة نصيبهم من هذه الدنيا فينسون العيون السود التي طمرتها ثلوج الجبال، وينسون عيون شهدائهم فيتبولون على سواقي الدم التي سالت من أكباد الغزالات فوق قمم الجبال، تلك وحشة الحفيدة القلقة، و وحشة الحفيد الخجول، اذا ترسل له بعد حين لتقول بقلب وجل:” أنت أنقى من الماء “.
نشرت هذه المادة في العدد 57 من صحيفة “Buyerpress”
بتاريخ 15/1/2017
التعليقات مغلقة.