شرود..
هذه الحالة الذهنية التي تصيبني، حيث كل شيء يتناهى إلى مسمعي، طقطقة الصحون والملاعق، أصوات كؤوس الشراب تُطرق ببعضها, يتلوها ضحكات صاخبة سرعان ما يختفي صداها، وشوشات أحاديث تُدار بين عجوزين عن فذلكات الجيل الجديد، قبلة مسروقة تتبعها شهقة امرأة متمنّعة راغبة، تندمج جميعها بسيمفونية عشوائية تنتظم على صوت “سيلين ديون” وهي تغني “لأنك تحبني”.
أستقبل هذه الأصوات بودّ وأنا أستند بمرفقي على الطاولة الخشبية محنيّة الظهر, أرخي رأسي على راحة يدي فيما أركز نظري بثبات على زجاجة الماء شبه الخاوية، وشعري الأسود منسدل يغطي كامل ملامحي الجانبية.. هكذا – في هذه الحالة – أتواجد ظاهريا بالمقهى..
إلا إني لم أكن هناك. كانت حالة شرود تنقلني بكليتي دون عبء يُذكر إلى مكان آخر..
مكان لا يوجد به غناء ولا ضحكات.. هناك حيث يقضي حبيبي خدمته الإلزامية
لا أعلم كيف يغيب عن وعي كل ما حولي, ويستحضر أماكن وأصواتاً لم يسبق لي أن عايشتها,
صرخات رجال كأنها خارجة من باطن الأرض.. خفقات قلب لشاب ركض أكثر من خمسين مترا قبل أن تخترقه رصاصة – دمه يتدفق بسرعة لا شك في ذلك.
أصوات آليات ترتسم أمامي بسلاسلها الضخمة, تحفر الأرض من تحتها أسمع صوت ارتطام حصا صغيرة بقطعة حديد مدّته من هذه الآلية.
لا أعلم إن كانت هي نوع من النبوءات أو حاسّة سادسة كما تسمى, لكني أدرك أن حبيبي هناك في زاوية من بناء ما يجلس القرفصاء, مستند بكلتا يديه على ركبتيه, يحاول أن يشعل سيجارة بقداحة يبدو أنها الوحيدة في ذلك المكان لا تصدر نارا.. تصدر فقط شرراً كعيونه اللاهبة, يرميها بعنف ليقف ويقذفها بعيداً في قدمه لاعناً حظّه, فلا مجال لإخراج آهاته المحروقة على شاكلة دخان.
كان يجب أن أغير رنّة جوالي التقليدية، في كل مرة يعيدني رنين تلفوني إلى الواقع أتوعد بأن اغير الرنة..
ربما سأضع ” بكرا إنت وراجع “…!؟
التعليقات مغلقة.