غبريال غارسيا ماركيز في الصين
ظل غبريال غارسيا ماركيز يلقى ترحيباً كبيراً لدى الوسط الأدبي الصيني منذ أن ألمّ الكتّاب الصينيون بأعماله… بداية من تعريفه الرسمي في مجلة «أدب العالم» الصينية عام 1977، مروراً بإقامة أول ندوة أكاديمية عن أعماله عام 1983… في الصين اجتاحت موجة «مئة عام من العزلة» أدب البحث عن الجذور وأدب الطليعةمنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، وصدرت أول طبعة رسمية في اللغة الصينية لـ «مئة عام من العزلة» متأخرة في عام 2011. انتشر ماركيز وترك تأثيراً عميقاً في الأدب الصيني حتى يمكن القول إنه أعاد تشكيل هيكل هذا الأدب إلى حد ما.
قال الروائي البارز مو يان، أول صيني يمنح جائزة نوبل العام 2012، إنه عرف خبر غياب ماركيز المؤلم عندما كان عند طبيب الأسنان: «في هدير حفر الأسنان تذكرت مشهد القراءة الجماعية لـ «مئة عام من العزلة» بين الكتّاب الصينيين في الثمانينات من القرن الماضي. لا يمكن أن أقول إن ماركيز هو الكاتب الأعظم في العالم المعاصر ولكن بالفعل لم يؤد أي كتاب غير «مئة عام من العزلة» إلى تأثير واسع ودائم منذ ستينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. كانت هناك فرصة لنتقابل، وللأسف فاتت هذه الفرصة بسبب مرضه. أشكر هذا العقل العبقري، الذي اخترع نوعاً مميزاً من الروايات فاخترع في الوقت نفسه أسلوب تخليد نفسه». تحدث مو يان عن قراءته «مئة عام من العزلة»؛ في المرة الأولى كانت مشاعره لا توصف، ربما «مثل ماركيز عندما كان يقرأ كافكا في باريس، دهشتُ تماماً حتى قمت من المقعد متأثراً، وكنت لا أعرف أنه يمكن أن تكتب الروايات هكذا». وشرح قائلاً إن ماركيز قلّب في شكل جذري مفهوم الأدب لدى جيله من الأدباء الصينيين لأن إحدى خصائص الواقعية السحرية هي أن تبالغ في الأشياء العادية في الحياة اليومية بينما تكتب الحكايات السريالية في الأساطير الشعبية بأسلوب عادي وجدّي.
في 2012 حاز مو يان جائزة نوبل، وقالت عنه الأكاديمية السويدية: «مزج الخيال بالواقع من خلال المنظورات التاريخية والاجتماعية، لقد صنع مو يان عالماً يذكّرنا بتلك التعقيدات في كتابات وليم فوكنر وماركيز وفي الوقت نفسه استفاد من الأدب الصيني القديم والأدب الشفاهي». لا شك في أن ماركيز يعتبر القمة المطلقة بالنسبة إلى مو يان. من ناحية، اعترف بأنه تلقى وحياً وإلهاماً مهمين من فوكنر الأميركي وماركيز الكولومبي في عملية إنشاء إقليمه الأدبي: «بلدة شمال غاومي»، وشجعته كثيراً روحهما البطولية في خلق الجديد. ومن ناحية أخرى، لا يحب أن يقارن النقاد والقراء بينه وبين ماركيز دائماً، بخاصة أنه لا يعجبه لقب «ماركيز الصيني». ومزح ذات مرة قائلاً إنه ظل يصارع مع ماركيز على مدى عشرين سنة ليتجنب تقليده. «إنما فوكنر وماركيز مثل فرنين عاليين تنفجر منهما القوة الوهاجة. أما نحن فمثل الجليد، إذا اقتربنا منهما، تبخرنا لا نترك أي شيء منا. لذلك على الكتاب الصينيين أن يحافظوا على مسافة بعيدة منهما لكي يكتبوا روايات أنفسهم ويشكل كل كاتب أسلوبه الخاص حتى يحتل مكانة معينة في مجال الأدب. أعتقد أنني حاولت بكل ما استطعت الابتعاد عنهما والهروب منهما طوال هذه العقود». كما شبَّه ماركيز بالمغناطيس اذ يجذب بقوة الكتّاب المعجبين به. فمن اللازم التخلص من هذه القوة المغناطيسية. فاقترح على الكتّاب الشباب التعلم من أفكار ماركيز الجوهرية الابتعاد عن التقليد الميكانيكي والسطحي في اللغة أو التفاصيل. عندما بدأ مو يان يكتب روايته «الضفدع»، عاد إلى حالته قبل قراءة «مئة عام من العزلة» وصرح بـ «أستطيع أن أغادر ماركيز أخيراً بعد المصارعة معه حوالى عشرين سنة، ويمكنني أن أقترب منه أخيراً، لأنني أقدر على معاملة المواد السحرية معاملة مختلفة عنه. لكن عملية التحول هذه مؤلمة وطويلة للغاية».
وعلى قائمة الكتاب الصينيين الذين تأثروا بماركيز يمكن أن نلاحظ اضافة الى مو يان، أسماء أخرى ذات شأن كبير مثل يوي هوا، وجه فاي، وتشن جونغ شي، وسو تونغ، وما يوان. إن تأثيرات ماركيز تكاد تكون ثورية بالنسبة إليهم.
نوَّه يوي هوا، وهو واحد من الأدباء الصينيين الأكثر شهرة في العالم بمناسبة الاحتفال بصدور «الحب في زمن الكوليرا» في الصين العام 2012 بأن ماركيز هو أعظم الكتاب على قيد الحياة. واعتبر أن هذه الرواية تدخل وتتسلل إلى صميم قلوب القراء، لا سيما أن التحولات النفسية للشخصيات توصف في منتهى الدقة. وأشار إلى أن الكاتب العظيم يستطيع دفع حبكة القصة إلى ذروتها، بينما الكاتب الأعظم يستطيع إنهاء القصة في الوقت المناسب. كما وصف شعوره لدى قراءته تلك الرواية بقوله: «كلما أقرأ عملاً عظيماً، يطاردني حتى أسافر فيه، فأصبحت طفلاً خجولاً، أنتزع ملابسه وأقلد خطواته لكي أتمشى في نهر الزمان الطويل، إنه رحلة دافئة تتشابك فيها مشاعر متوافرة. العمل يأخذني بعيداً، ثم يتركني أعود بنفسي، لكن بعد عودتي لاحظت أنني قد أصبحت معه إلى الأبد».
وأشار الكاتب جه فاي أحد الكتاب البارزين لأدب الطليعة إلى أن أسلوب السرد لماركيز يتعلق بتأثيرات الروايات الغربية الحديثة، لكن الإبداع في أشكال السرد أهم وهو من المتطلبات الداخلية لإظهار وقائع أميركا اللاتينية الغريبة المعقدة، وفي هذا الصدد ساهم الكتاب اللاتينييون في إغناء تقاليد السرد الغربي الحديث. كتب مقدمة لكتاب «سيرة غارسيا ماركيز» المترجم إلى اللغة الصينية تحت عنوان «غارسيا ماركيز: طريق العودة إلى الجذور» معبّراً عن أن السحرية عند ماركيز جذرها في أرض الواقعية ولها الجذور الثقافية العميقة، فعلى الكتاب الصينيين البحث عن جذورهم الثقافية الأصلية. كما رأى أن «ليس للكولونيل من يكاتبه» عمل كامل لا ينقصه أي عنصر سواء من تقنية الكتابة أو اللغة نفسها، فله شهرة عالية وتأثير أيضاً على رغم أن «مئة عام من العزلة» أصبح العمل الرمزي لماركيز في طول العالم وعرضه، بتعبيره.
وقدَّرت الكاتبة وانغ آن يي؛ وهي من الرواد الممتازين في أدب البحث عن الجذور بعد الثورة الثقافية الكبرى، أن «مئة عام من العزلة» تظهر عملية تغيرات ماكوندو وعائلة بوينديا، وهذه ليست وقائع أميركا اللاتينية فحسب، بل هي عملية طبيعية بالنسبة إلى أي وجود مهما كانت حياة صغيرة أو إمبراطورية ضخمة: «تريني هذه الرواية مئة عام على أرض أميركا اللاتينية، والأكثر من ذلك، كادت تريني دوران الكرة الأرضية كلها».
ورأى ماي غيا الروائي وكاتب السيناريو أن ماركيز «فجَّر قنبلة ذرية في مجال الأدب الصيني في الثمانينات من القرن الماضي حيث كان كثير من الكتاب الصينيين يتلقون إلهامه وإرشاده. وكانت تصيبه دهشة كبيرة وهو يقرأ «مئة عام من العزلة»، و «الحب في زمن الكوليرا»، و «الجنرال في متاهته»، لأن هذه روايات جديدة بكل معنى الكلمة، فهي اختراعات مميزة لماركيز فقط، وفق تعبيره.
واعترف الكاتب لي أر، بأنه كتب رواية مقلداً أسلوب «مئة عام من العزلة»، التي يراها أعظم روايات القرن العشرين، ويقول: «على رغم أن الرواية تحكي قصة أميركا اللاتينية، لكن يمكن كل صيني أن يرى حياته من خلالها. قراءتها تعطيني تجربة جميلة وما زالت تلك الذكريات واضحة كما حدثت أمس، فكنت أسمع الصوت من نعش جدي وتغريد الطيور في الغابة، وكان يبدو أنني أقف أمام منبع نهر يختفي، لكنني أسمع أصداء موجاته في واد آخر. هذه الرواية سرد واستكشاف، هي ذكريات في فرجة الوقت وتجولات في جانب المكان».
يعتقد بعض النقاد الصينيين أن السبب في أن ماركيز يجذب أنظار الكتاب الصينيين باستمرار يرجع إلى تمكّن الكتاب اللاتينيين ويمثلهم ماركيز من الجمع بين التعلم من الأدب الغربي الحديث وشق طرقهم المميزة في الوقت نفسه، وجمعهم بين التراث والحداثة، والخيال والواقع، والوطني والعالمي، مما قدم إمكانية أخرى عن التحديث الأدبي لدى الكتاب الصينيين.
واعتبر الناقد جو دا كه، أن ماركيز هو معلّم للكتاب الصينيين وقد أصبحت روحه تتغلغل في قواعد كتابتهم. وقابل تشن جونغ يي مدير قسم الدراسات الأدبية الأجنبية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية ماركيز مرتين، فوصفه بأنه «شخص لطيف، خفيف الظل يمتاز بسذاجة وبساطة أهل الكاريبي». ورأى تشن جونغ يي أن «رحيل ماركيز يرمز إلى نهاية عهد أدبي. يغادر كاتب عظيم يمثل ضمير الأدب الأخير ولا نعرف كيف سيتطور الأدب في ما بعد. ربما ستندثر التقاليد الأدبية القديمة تدريجاً». ويؤكد تشن أن «الأخلاق ستبقى في جوهر إبداع الكتاب اللاتينيين، إذ يعتصمون بالتراث الأدبي، بينما ينجحون في استيعاب عناصر حديثة، وهذا ما يحتاج إليه الأدب الصيني الآن، وإلا فستفقد الأمة أملها في المستقبل».
مهما كان الأسف والأسى، رحل غبريال غارسيا ماركيز، لكنه لن يشعر بالعزلة، وستبقى أعماله خالدة. ربما الأنسب أن يحمل التابعون روح «الأستاذ» ويكملوا التقدم في طريقه، حفاظاً على التراث وسعياً وراء الابتكار.
الحياة
التعليقات مغلقة.