مصادفاتٌ لا تَثِق بتدبيرها… مصادفاتٌ أخطأت في الحساب

32

يا

1ـ الاستدعاء:

يحدث للمشهورين، في المصادفات المحسوبة بدراية الحظوظ، قَصْداً منهم أو تلقاءً لا يدَ لهم فيه، أن تُضاف إلى ما استحصلوه مراكماتٌ لا تحتملها الموازين. سلمان رشدي، الباكستاني البريطاني، كان شهيراً قبل انقلاب شهرته بكتابه المثير «آيات شيطانية» إلى إعصار يضعه إلى جوار أرباب التاريخ، وكواكب التاريخ ونجومه. اللبناني الفرنسي أمين معلوف كان شهيراً قبل استفاضة شهرته لَغَطاً بمحادثة في تلفاز إسرائيلي. لن أتوقف في التقويم أمام امتحانٍ استثار رشدي فيه أحكامَ الدينيِّ، واستثار معلوف فيه أحكامَ الأخلاقيِّ.
لا قصد لي إلى حُكمٍ هنا، بل استظهار بعض مراتب الطرافة في أحوال المصادفات، أو التلاعب بالمصادفات جرياً بالإثـــارة، عن تصميمٍ، مجرى حدوثها عن غير عَمْدٍ.
كاتبان راكَمَا الشهرة على كتفَيْ أمِّها في امتحانين من قياس الديني، والأخلاقي. غيرُهما درجوا، مصادفةً، في المُمْتَحَنيْنِ فلم يخرجــــوا منهما بشروى شهرة أو نقيرها. قد يُلامون أنهم لم يكونوا مشاهير أصلاً فغفل عنهم الحُكْمانِ الدينيُّ والأخلاقي، وقد يُبرِّر لهم التخفيض من حظوظهم أنهم عبروا خلسةً، وأُغفِلوا إهمالاً.
قليلون جداً يعرفون أنني عبرت المُمْتحَنيْنِ بلا نصيبٍ من شهرة، أو إثارة فضول. لستُ مشهوراً. هذا تبريري، ولا أعرف موضعي على سُلَّم المغمورين. لكنَّ روائييْنِ ليسا أفضل حالاً من موضعي في المقامات، عثرا على فيض من انشغالِ المنشغليْنَ، وردود الأفعال، وسحر التضامن دفْعاً لاستقواء الدينيِّ ضد الدنيا: روائية باكستانية، تسليمة نسرين، في مطالع العقد الأخير من القرن الماضي، وروائي سوري، في مطالع الألفية الثانية. أثار الدينيون حول «إباحية» خفيضة الصوت في نصوص منهما شهرةً لهما يسيل لها لعابُ الأدب في سنين. غُمرا حظوةً بالترجمة، والتأييد، ثم حان وقت أن تعرف الفقاعة، المنفوخة بهياج «الجهاد»، أنها فقاعة. لا يُعرف موضعهما الآن في سُلَّم الحظوة. رقدت الموجة.
لم تقدِّر الحظوظ لي، في حالين جاورت بهما أحوالاً من خطر المواقفِ المَجْلَبة لاستنفار الدعاة إلى الرجم، شأناً يميل بالشهرة عليَّ، أو فقاعة من «الدعاوة» حتى.
في العام 1990، نشرتُ مقالة في مجلة «الكرمل»، للكاتب المصري محمود سيد القمني (العدد 31)، بعنوان: «الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة: الواقع الإجتماعي لعرب الجاهلية». مقالةٌ جامعةُ المصادر، والمظانِّ المعتَمَدة الموثوقة من تاريخ النبوة، وسيرة قوم النبي. لم أظنها ستستنفر وتثير على النحو الذي جرى. لكن تراكب المثير تباعاً من حولها بلغ مبلغه من جرائم السياسة.
كان صديقي الراحل محمود درويش يمدُّني بما يصله من مواد إلى باريس حيث يقيم، وأضيف إليها ما يصلني إلى نيقوسيا حيث أقيم، بما يكفي لاجتماع الصفحات على عددٍ. نصف من تدبيره، ربما، ونصف من تدبيري ربما. اتفاق عن بُعد بلا تخطيط إلاَّ موافَقَةَ الثقة للثقة. وهو أمر لم يتبدل حتى بعد العصف الذي فاجأنا.
لقد حمل أحمد جبريل، المجند في فصيل المخابرات السورية بعنوان «القيادة العامة» (الفلسطينية النَّسب) نسخاً من المجلة إلى وجهاء من حركة «حماس» الإسلامية، فسارع هؤلاء في حملها إلى طهران. لا أعرف عن أحمد جبريل أنه قارئ. هو اختصاصيٌّ في المتفجرات، والاغتيال بها. (يتذكر الفلسطينيون واللبنانيون عمارة «الفاكهاني» التي نُسِفت على من فيها، ظنًّا منه أن منشقين يعقدون اجتماعاً). فمن ألهمه فهْمَ المقالة على ريبة في مقاصدنا من نشرها؟
فجر ذات يوم رنَّ الهاتف فأيقظني. كان صوت محمود معتذراً، لكنه معلَّل باضطراره إلى المهاتفة: «نحن في مأزق».
كانت مجلة «الكرمل» تتبع رسمياً «اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين»، الذي هو من هيئات «منظمة التحرير الفلسطينية». وقد توسلت «حماس» بفعلها من حمل أعداد إلى طهران تحريضَ المراجع الدينية ضد ياسر عرفات، فانطوت المداولات في أروقة «العمائم» المجتهدين على وضع صوغٍ للفتيا «تخلط» بين مرجعية المجلة ـ الاتحاد وبين منظمة التحرير نفسها، لتشمل الرئاسة بالمسؤولية: أيْ عرفات نفسه.
بعد يوم واحد من اتصال محمود بي، جاءني القنصل الفلسطيني في قبرص إلى مطعم نختتم ظهيرات العمل فيه باجتماعٍ للمؤانسة، حاملاً رسالة بخط عرفات: «فليحضر الأخ إلى تونس فوراً».
لم يكن استدعاءً يؤجَّل. استقللتُ أول طائرة إلى تونس. نزلت في فندق ليومين، قبل إجراء تدابير من سفارة فلسطين للنزول في بيت يتعهده أمنيون من تابعية «القطاع الغربي»، وقد نمت ليلة في سرير «أبي جهاد» نفسه تكريماً، بعد توصيات متعاقبة في الهاتف من «وجهاء» أصدقاء إلى رجال الأمن للعناية بي.
انتقلت من منزل «الأمن» (بعد تسليم جواز سفري وفق أصول مرعية في أحوال الاستدعاء من الرئاسة) إلى بيت ضيافة كبير، على قرب أشبار من البحر، أمضيت فيه خمسة أيام، أو ستة، قبل أن يحضر شبَّان لاصطحابي، في سيارة عليها «مواكبةٌ» إلى «أبي الكوفية»، كما قال لي أحدهم مبتهجاً من غير ذكر اسمِ من يعني، ففهمت.
في منزل لا أعرفه من العاصمة كان ياسر عرفات، يجاوره المغدور «أبو الهول»، ولفيف من مشاركيه في غداء ذلك اليوم. هشَّ لي ناهضاً. عانقني. أجلسني قربه تماماً. فتَّ قطعاً من اللحم بيديه معاً في صحن جيء به إليَّ. أدار بصره مبتسماً على الجلساء بتلميح أكثر وضوحاً من تصريح: إنه يكرمني، ولست ماثلاً لأُعَنَّف أو أُلام. كان الحوار القصير السطور يكفي ليتسع لصفحات إنْ رفدتْهُ حواشٍ في الشرح، وتذييلات في التفسير: «جئتُ بك لأحميكم»، قــــال في صيغة الجمع. كانت فُتيا الدفع بالعاملين في «الكرمل» إلى استباحةٍ على وشك الإنجاز. لم تكن علاقة عرفــــات بمرجعية الحكم في طهران على ما يرام، بل في سوء. لكن عرفــاتَ كان يحتفظ بخيوط كُثرٍ من وشائج سابقة خارج الأروقة. السفير الفلسطيني، في أرض الأئمة الحكام، تبلَّغ بماجرياتٍ في الخفاء، فتحرك الزعيم الفلسطيني مستبقاً ما لن يُحمد.
أبلغني أنه أوقف الفُتيا «راهناً» بوعدِ القصاص من المسؤولين في «الكرمل»: «كان دمكما سيُهدر». لقد عناني وعنى محموداً بلا تصريح. وهو ـ قطعاً ـ لم يكن في وارد استدعاء الشاعر الفلسطيني لِمَا قد يحمل الأمر من بلبلة، وبلبال أيضاً، فاكتفى بي «معتقلاً» رهن «الإقامة الجبرية». نعم. كنت رهن «الإقامة الجبرية» مذ احتُجزَ جواز سفري، لكنني بقيت حرًّا على طول البلد وعرضه، وأُسكنتُ شقة وسيعة في عمارة، فلحقت بي زوجتي إلى تونس.
أمضيت خمسة وأربعين يوماً «سائحاً»، «متسوِّقاً». حضر محمود إلى تونس. توافق مجيئه مع حضور عرفات. أُنجز «إفراجٌ» مشروط عني، بإعادة جواز السفر إليَّ، مع رسالة بخط عرفات إلى «الجهات الأمنية» بأن يواكبني شخص إلى قبرص لإنجاز عدد من «الكرمل»، والعودة إلى تونس من جديد بعد ذلك.
غادرت تونس وزوجتي من غير أن يرافقنا أحد، ولم أعد إليها. كما لم يجدد عرفات «استدعائي». طويَ الأمر.
لم تحوِّلني المصادفة إلى «قضية». لم تُصبني جروحُ الشهرةِ المحبَّبةُ بسهم منها، أو بكدمة من مِقْذافها.
2 ـ التكفير:
في العام 1992، إن أنصفتني ذاكرتي، اتصلت بي هاتفياً صحافية إسرائيلية من «يديعوت أحرونوت»، علمتْ بإقدام ماتي بِيْلِدْ (أحد مؤسسي «حركة السلام الآن») على ترجمة روايتي «فقهاء الظلام» إلى العبرية. أبدت رغبتها في محاورة صغيرة، فاعتذرتُ.
قلت: لن أجري حواراً مع جهة إعلامية في بلدٍ عدو، يحتل أرضاً سورية، وأرضاً فلسطينية.
سألتني: متى تظن أن الوقت سينضج لإجراء حوار مع كاتب مثلك؟
أجبتها: حين يحصل الفلسطيني على دولة، وتعود الجولان إليَّ.
سألتني: أهذا هو السبب، أم أنت خائف؟
أجبتها: لا أخاف. الأمر مسألة أخلاقية.
أنهينا المكالمة في لطف. لا شيء آخر.
بعد فترة قصيرة وضع زملاء لي مجلة «الهدف» (الناطقة بلسان «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين») الصادرة من نيقوسيا، حيث أسكن، وأعمل، بين يدي. كان في استهلال موقفها الأسبوعي ما يثير الحنق حقاً، والحزن، والخيبة: لقد زعم الكاتب فيها أن رصدهم للصحافة الإسرائيلية أمسك بي «متلبِّساً» بالجرم المشهود.
أظن أن الصحافية الإسرائيلية ارتأت، على الأرجح، توثيق المكالمة القصيرة بلا تحريف، فتلقَّفت المجلة الفلسطينية منها كلمة: «لا أخاف»، مكتفية بها لبناء الحكم، وتأييد البرهان على أن «بركات» يجاهر بعدم خوفه من محاورة الإسرائيليين. لم يكلف القائمون على المجلة أنفسَهم بسؤالي، هاتفيًّا، في مدينة قبرصية تضمُّنا معاً، مستفسرين. صدَّقوا «العدو» بتحريف ما نقلوه هم عنِّي وليس «العدو»، و»كذَّبوا» منِّي إمكانية التوضيح لو أتَّصلوا.
كتمتُ المرارة، كما كتمتها حين أُبلغتُ أن الراحل محمد الماغوط «رتَّب» لخياله إنشاءً من الظرافة على بُعد شبر من تُهَم السحر في «محاكم التفتيش»، مصرِّحاً أن الإسرائيليين يدفعون بي إلى «الشهرة» لأنني كردي!!! لم أفهم ذلك إلاَّ على قَدْر اختصاص بعض العقل العربي في الإقامة بين الولاء للشُّرطي وزعم التفكه من الشرطي. ففي ظاهرة «الفكاهة» السورية، التي تولى الماغوط وضع الكثير من نصوصها، وتولى عروضها تمثيلاً صاحبه دريد لحام، أن «نقد» الشرطي غدا لزوماً في حضور «الترفيه»، مخلَّى المعنى من تحريض على سلطة الشرطي (سلطة النظام).
كان «النقد» الساخر هذا يحيل الشرطي السوري، ورمزه، يوماً بعد يوم، إلى ضرورة لتوفير الفكاهة للمسرح حتى تلاشى النقد فيه. الشرطي مُستحبُّ الحضور كالمواطن البسيط، بحكمة الأُميَّة، المكثرة من ترديد الأمثال العامية على ثقة من «عمقها» الذي لا يجاوز نعل حذاء الحاكم سُمكاً. لذا رُعيَ الماغوط من الحاكم في مرضه، وزار القذافي بيت دريد لحام معجباً بفكاهات التمثيل الإنتقادي الذي لا يعنيه، كالملوك يستعرضون مهرِّجيهم يقلِّدون الملوك فيضحكون. رُعيَ الماغوط، واحتُفي بالممثل الفكاهي المدافع عن نظام «الشرطي» الحاكم (بانفصام في شخصية «النقد» الأُضحوكة بين شرطي الفكاهة وشرطي الواقع الدموي)، فيما كان أصحاب نقد شَرِطة نظام دمشق ونظام طرابلس يُلاحَقون، أو يُغتالون.
لا بأس. شاعر سوري، شيوعي، من المخضرمين (لا أعرف إن كان حيًّا يتفكر في استقلال سوريا بين دبابة من الغنائم الفقيرة لحروب الأسد، يعيدها الرفيق بوتين إلى الإسرائيلي، وبين مناورات عسكرية قادمة يتشاركها الإسرائيلي مع الروسي المنطلق إليها من شواطئ عرين الحاكم) ـ الشاعر ذاك بنى على تلفيق مجلة «الجبهة الشعبية» مقالة مرعبة في «التشويق»، زاعماً أنني أديب «موهوب» (مشكوراً) يسعى إلى «التطبيع» مع الإسرائيليين، مثلي مثل الروائي السوري الراحل هاني الراهب.
كيف بنى الشاعر الشيوعي تهمته الركيكة على ذلك النحو من التساهل «القاتل» في استنطاق الأخبار؟ تساؤلي مفرط في سذاجته. كلهم يرجعون في انتساب «الدم الأممي» إلى عبادة الهول في تصنيف «الخارج» على قواعد الخضوع: تكفيرٌ دينيٌّ في السلوك الغلواء للديني، يجاوره تكفير المذهبية السياسية في السلوك الغلواء للسياسيِّ مقدَّساً كالديني. هذا حظنا. لكن «للأسف» لم تصبني جروحُ الشهرة المحبَّبةُ عن سهام التكفيرية السياسية، ولم أنل كدمةً من مقذافها.

3 ـ بيت الشِّعر:
ما من سياق ينتظم السطورَ التالية برباط إلى مطلع مقالتي هذه ومتنها. إنها نظرة إلى بيت من الشعر لم استطع تلافي إقحامها هنا، مذ لم أعرف متى سيتسنى لي تدبير لفتة إليه في مقالةٍ ما، والبيت لحافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتَها
أعددتَ شعباً طيبَ الأعراقِ.
قطعاً، ما من مدرسة في الأقاليم العربية تنجو من تمريغ الأمِّ وعيدها، كلما حلت المناسبةُ موافقةً لترتيب الأساطير لأعيادها، في رَمْل هذا البيت. إنه مجتزأٌ من قصيدة لا يخلو منها صدرٌ أو عجز من الإزدراء بالأنثى، على وضوحٍ متساهل حتى التخمة في مقاصد الشاعر مبنية على أحكام الديني الصلفة، وعلى عجرفة الإيمان بالذكوريِّ. وأنا أختصر هذه المقاصد على التالي: «لا تتركوا المرأة سافرةً. لا تتركوها تتجول وحدها في الأسواق. مكانها هو شؤون البيت ورعايته». سأجاوز الواضح إلى الظاهر «غير الواضح» في بيت «الأم»، الذي يؤخذ ترديده بلا تدقيق قط، منذ نَظْمِهِ حتى اليوم. فانظروا معي:
الأم مدرسة «إذا» أعددتَها
«إذا» شَرْطية متعلقة بضمير تقديره «أنتَ» (إذا أعددتَها). أيْ أن الأم تغدو «مَدْرسةً» للتربية، والتنشئة، إذا هيأها «الذَّكر» تدريباً، وتلقيناً، وتعليماً، وتثقيفاً، على التحديد والتخصيص.
جواب الشرط، في عجز البيت، يستوفي غَرَض صدره تأكيداً فظًّا، صفيقاً: «أعددْتَ»، أنت الذَّكر، شعباً طيب الأعراق. لا وجود للأنثى كمعلمة، مربِّية، قائمة بنفسها «إعداداً»، وتجهيزاً، لتكون «مَدْرسةً» للتربية. الذَّكر، في الضمير الموصول (أعددتَها. أعددتَ) هو المؤسس، المرجعية؛ هو التحصيل النهائي في إقامة «التربية» مدرسةً.
و «الأم»، في البيت، لفظٌ حشوٌ، معطَّل، يجري به العبور إلى تخصيص «الذكر» بإمكاناته في «تجهيز المجتمعات ـ الشعوب». ولمعنى «الأنثى»، في هذا البيت، تبعيةٌ مطلقة لمعنى «الأب المعلِّم»، لا غير.
أوقفِوا احتقارَ أمهاتكم في عيدهن. لا تردِّدوا هذا البيت.
٭ شاعر وروائي سوري ـ السويد

القدس العربي

التعليقات مغلقة.