150 خطأ لغويا – وليد علاء الدين

80

في كل صناعة هناك عقل مبدع، مهمته الابتكار والخلق إلى أن يدفع بمخلوقه إلى العالم، وهناك ثمّة خبراء في تخصصات تكميلية عليهم الاهتمام بالمخلوق الجديد ورعايته.

وليد
وليد علاء الدين

شاعت بين رواد معرض أبوظبي الدولي للكتاب مؤخرا معلومة بخصوص رفض لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” روايةَ الروائي المصري القدير محمد المنسي قنديل “كتيبة سوداء” لأنها تضمنت أكثر من 150 خطأ لغويا بين نحوي وإملائي. وهي المعلومة التي أكدها أمامي شخصيًا أحد أصحاب دور النشر التي وصلت عدة روايات صادرة عنها إلى القائمتين الطويلة والقصيرة هذا العام.

كثيرون سوف يبدؤون التفكير في هذه القضية من زاوية التعجب؛ كيف لكاتب كبير في قامة “قنديل” أن يرتكب كل هذا القدر من الأخطاء في رواية واحدة؟ وهو سؤال لا غبار عليه؛ إذ من حق القارئ أن يفترض في كاتبه إتقان اللغة التي يكتب بها، أليست أداة التواصل الوحيدة بينهما؟

وهو افتراض صحيح في عمومه، ولكنه يفتقر إلى الكثير من التفاصيل التي تنبغي مناقشتها لإعادة الأمور إلى نصابها؛ أولًا اللغة ليست أداة الروائي الوحيدة، ولكنها أبرز أدواته. واللغة في كلّ الأحوال أكبر من مجرد مجموعة القواعد الإملائية والنحوية -التي يمكن ضبطها في كل وقت وفي أيّ مرحلة من مراحل الكتابة- فأداة الروائي وصِلَته الحقيقية بقارئه هي الخيال، واللغة وسيلة للتعبير عن هذا الخيال، اللغة هنا طينة تشكيل العالم وليست أبدًا العالم كله.

هذا الخيال، هذه المتعة، هذا الجذب لن ينتقص من قدره خطأ نحوي أو إملائي أو 150 خطأ، سواء كان سببهم عدم إلمام الكاتب ببعض قواعد النحو والإملاء، أم عدم انتباهه لها.

وفقا لهذا التعريف تتراجع -ليس أهمية القواعد بالطبع- ولكن درجة هذه الأهمية على سلّم أولويات الكاتب نفسه، وعلى سلّم المعايير التي يقاس على أساسها إبداعه.

فهل يعني ذلك أن نقبل خروج رواية لكاتب كبير بهذا العدد من الأخطاء؟ الإجابة بالطبع لا، ولكن علينا أن نحدّد بدقة على من تقع هذه المسؤولية؟

إذا اتفقنا على أن النشر صناعة، فإن كل صناعة -محترمة- تتطلب توزيعًا للأدوار وصولًا إلى منتَج محترم.

في كل صناعة هناك عقل مبدع، مهمته الابتكار والخلق إلى أن يدفع بمخلوقه إلى العالم، وهناك ثمّة خبراء في تخصصات تكميلية عليهم الاهتمام بالمخلوق الجديد ورعايته، وتدارك ما قد يكون شابه من عَكار وشوائب أثناء انهماك المبدع في عملية الخلق والتشكيل، تعمل هذه الأيدي في ضبط قصور اللغة وتليين بعض تيبّسات تفاصيلها وشدّ ما يكون مترهلًا وسبك ما يكون نيئًا، تمهيدًا لعمليات التغليف والتوضيب والتقديم للجمهور.

فإذا أهمل بعض هؤلاء واجباتهم، فهل ينتقص ذلك من قدر الكاتب شيئا؟ هل يُعاب عليه ذلك؟ الأصل أن لا يعاب عليه ذلك، والمنطق يقول إن هذه الأمور مهمة الناشر، وإنّ تقاعسه عن أداء مهامه إلى درجة ظهور رواية لروائي قدير بها أكثر من 150 خطأ أمر يستدعي المساءلة، إلا أن المساءلة تستدعي وجود قانون أو على الأقل عرفا، والعُرف يستدعي ثقافة راسخة بين الأغلبية يُحتكم إليها. ونحن كما تعرفون نعمل بلا قوانين وأعرافنا مثل أخلاقنا متّسعة، وعليه فلن يقتنع أحد بأن ناشر رواية محمد المنسي قنديل يستحق العقوبة والتشهير، كما يستحق المحاكمة على تضييع فرصة الفوز على رواية جديرة به، مقارنة بالروايات التي تنافست معها أو بغيرها من روايات صدرت خلال هذا العام.

هذا الناشر يستحق كذلك العقوبة على تعريض روائي كبير لموقف لن ينجح أحد في تصحيحه، سيظل كثيرون -للأسف- يعتبرونه الروائي صاحب الـ150خطأ لغويًا في رواية. ولا مجال لتصحيح الصورة، لأن الناشر العربي يعمل بمفهوم السبوبة لا منطق الصناعة، وإلى أن يقضي الله أمره فإننا -بلا شك- سوف نفقد الكثير من الفرص في عالم ذاهب نحو ضبط الأداء والمعايير.

العرب اللندنية

التعليقات مغلقة.