وحشة.. زاوية يكتبها طه خليل – أعناق ملتوية

203

طهكان لدى والدي فرسا أصيلة، ذات حسب ونسب، نهتم بها كفرد من العائلة، حملت، وولدت مهرة كميت جميلة فكنت أهتم بها، وأرعاها، حتى أكملت ثلاث سنوات، وقرر والدي أن نعلّمها الركوب، والعادة أن المهرة تكون شموسا، قلقة، لا تركن لأحد، عنيدة، نفورة لا تسمح لأحد أن يقترب منها، إلا بعد جهد ومداراة، وسياسة، يومها، اتخذت قرارا خطيرا بأن أكون أول من يمتطي ظهرها، وكنت أعلم أن في ذلك خطرا كبيرا، فقد تحرّر رأسها مني، وترميني رمية تدق فيها عظامي، لذلك استمعت لشيخ عجوز كان قد ساس الخيل في شبابه، فقال لي: ” عليك أن تستوي على ظهرها من المحاولة الأولى، وتشدّ رسنها بكل ما أوتيت من قوة، لتلوي عنقها نحوك، وإن فعلت فاضرب برجلك خاصرتها، ودعها تنطلق، عليك أن توجهها نحو أرض مفلوحة للتو، كي تنغرز حوافرها في التراب، فتتعب اثناء الجري، وتتوقف حين تأمرها بالوقوف” . وحذرني: ” حذار ان ترخي رسن فرس، فتحرر رأسها منك، فهي إن حررت رأسها ومدت عنقها أمامها فسوف تجري كالبرق ولن تتوقف، إلا بعد ان ترميك كريشة من على ظهرها، دعها تسبح وعنقها ملتوٍ نحوك.” .

وهززت رأسي، أمسكت برسن مهرتي، ومسحت على رقبتها، وجبينها، حتى اطمأنت إليّ، وبقفزة كنت على ظهرها، وشددت رأسها نحوي كما قيل لي، وانطلقت، وتركت خلفي ذهول المجتمعين هناك، وما إن ابتعدت قليلا ، حتى بدأت أرخي الرسن لمهرتي التي أحب، و بدأت المهرة تمد راسها، وتحرره مني، حتى تركت الرسن على الغارب، ولم أعد أرى الأرض، كانت : ” كجلمود صخر حطه السيل من علِ”. كما وصف امرؤ القيس فرسه ذات يوم.

ما يقرب من النصف ساعة، ومهرتي تقطع المساحات باتجاه الجنوب، تقطع الفيافي وتطوي المساحات، كنت وأنا مغمض العينين أفكر بنصائح العجوز لترويض الخيل، وأسأل نفسي ترى هل أخطأت.؟ ومتى سترميني مهرتي إلى سحيق الموت، وبالمقابل كان الهواء يرفع شعر ناصيتها الطويل ليلامس وجهي وجبيني، كان ملمس شعرها أقرب الى نعناع بري يمرره هواء نيسان على روحي، ولكن الخوف كان شريكي، وفتحت عيني لأرى أين وصلت، وأغمضتها حين أدركت أني أجهل تلك الأرض كلها، وراحت مهرتي تخفف من عدوها، وتتباطئ حتى توقفت تماما، فتحت عيني وإذ بها قد لوت عنقها نحوي، وتحدق بعيني تماما، وأثر دمعة قد سال من تلك العيون السود. يا إلهي، ثم ترجلت عنها، وأخذت رأسها في حضني، كانت أنفاسها حارة، وتحمحم لي، ولوهلة كما لو أنني أفهم ما تقول، قبلت جبينها، ومسحت على رأسها، فأطلقت صهيلا فرحا، شممت من صوتها عذرية الفضاء إذ تهبط من علياء الود، والحنين، والشغف، كنت على مقربة من الساتر الترابي بين سوريا والعراق، وهذا يعني أنني قطعت ما يقرب من الاربعين كيلو مترا، وكل ما حولي صحراء ورمال وغبار خفيف.

وحين لاحظت أن مهرتي الكميت قد ارتاحت، امتطيت ظهرها، واستدارت من تلقاء نفسها وسلكت الطريق عينه رجوعا، ولم آبه برسن أو بعنق أشده نحوي، وجرت حرة كسنونوة من البرق، وحين وصلت بيادر القرية، لاحظ الجميع أن مهرتي حرّة الرأس وهي تجري، فلم يعلق أحد بشيء، وحده السائس العجوز قال: ” هي تحبك “. فقلت: ” وأنا كذلك ” فأردتها حرة، طليقة الرأس، تختار الفضاء والطريق لي ولها.
هي وحشة أن تلوي عنق المهرة لترويضها، وحشة الخيل تلك، ووحشة الضوء في روجآفايي كردستان، وحشة الشعوب، وثمة وحشة يختارها بعضهم بمحض حريتهم، يلوون أعناقهم أمام جهلة التاريخ، ولقطاء الأرض، فيمتطيهم أعراب النذالة في بلاد تكون الرؤوس فيها حرة على الأغلب.

 

التعليقات مغلقة.