وحشة..في المكان هناك

48

زاوية يكتبها طه خليل

طه خلييل
زاوية يكتبها طه خليل

سنوات عدة عملت في الصليب الاحمر السويسري كـ “Interkultureller” (وكنا نرتبط بعملنا باللجنة الدولية العليا لشؤون اللاجئين ) وكانوا يعنون بهذه الوظيفة الذي يعمل في مجال التعدد الحضاري أو من يقرب بين حضارتين مختلفتين, وبمعنى أدق كان علي أن أشرح وأعلم اللاجئين أسلوب الحياة السويسرية وهذه إحدى الصفات الرصينة لدى السويسريين فهم ينفرون من الأجنبي الذي لا يلتزم بقواعد الحياة لديهم وهي كثيرة ودقيقة جدا ( والأرجح لهذا ولشدة دقتهم وتدقيقهم غزوا العالم في صناعة الساعات ) ومن الأمور التي كان علي ان أشرحها للاجئين وأدعوهم للالتزام بها قبل أن يتخرجوا من مركزنا ( مركز التأهيل ) لكي يندمجوا بعد ذلك في المجتمع ويصبحوا سويسريين أو أنصاف سويسريين على الأقل كانت:

• عليهم ان لايستحموا بعد الساعة العاشرة ليلا, فربما يكون لديهم جيران نائمون وسيزعجهم صوت مرور المياه في أنابيب الصرف التي تمر من الطوابق الاخرى في البناء

• عدم غسل الملابس يوميْ السبت والأحد وتعليقها في الشرفة.

•عدم التدخين في الأماكن المغلقة كالحوانيت والباصات والقطارات, أو رمي أعقاب سجائرهم في الشارع.

• يجب أن تكون لديهم في البيوت التي سيسكنونها العديد من سلال المهملات واحدة خاصة لقطع الزجاج وأخرى لفضلات الأطعمة وأخرى لقصاصات الورق ورابعة لقشور الفاكهة, التي كانت الحكومة تجففها وتطحنها ثم توزعها على الفلاحين لتسميد الأراضي الزراعية.

• عدم استخدام الضرب والعنف مع الاطفال والنساء ( وكنت أعتقد من قبل أن العنف يعني فقط الضرب أو الطعن بالسكين أو استخدام الرصاص أو ما شابه.. حتى قالوا لنا ان العنف يشمل حتى المقاطعة الفجة في الحديث)

وكنت أضيف من عندي مما لم يكن يخطر على بال السويسريين من ممنوعات مثلا : عدم قتل العصافير والطيور التي تنزل على أكتافهم أو أياديهم, إن هم لوحوا لها بفتات الخبز وعدم قطف الورود من الساحات وحدائق الجيران وعدم شوي الكباب في الشرفات أو تعليق صحن الدش بدرابزين الشرفة أو”تلطيش” النساء والصبايا في الشارع أو نادلات المقاهي , وأن ابتسامة النادلة في المقهى للزبون لا يعني أنها قد أعجبت بزنوده المفتولة وشواربه المعقوفة التي تقف عليها النسور.. وما إلى ذلك من اللطائف الشرقية .

وقبل أن تنتهي مدة الاقامة في مركزنا كنت آخذ اللاجئين إلى الجبال, فالسويسريون مغرمون بجبالهم والتزلج على ثلوجها وربما سيضيف البرلمان السويسري مستقبلا إلى شروط الحصول على المواطنة شرطا سويسريا بامتياز وهو على المتقدم للجنسية اتقان رياضة التزلج, وذات مرة قمت مع اللاجئين برحلة إلى جبال الألب وكان الوقت ربيعا حيث كانت الجبال تغص بالمتزلجين ( كانت المجموعة تتألف من لاجئين عراقيين وايرانيين وصوماليين .. أكراد وعرب وفرس ..) وبينما كان اللاجئين منشرحين مدهوشين للمناظر الخلابة وقفزات الشباب والشابات, لفت نظري لاجئا كرديا من كردستان الايرانية وهو يجلس لوحده على صخرة وذاهل عن كل المشاهد التي أمامنا, فاقتربت منه لأسأله ما به و بم يفكر؟, فأجابني متحسرا ( وهو أب لتسعة أطفال ) قال:” آاااه يا كاكا (أخ ) طه .. كم تصلح هذه الجبال لإقامة ثورة مسلحة !!” فسألته : ماذا ؟ قال : نعم .. أنها جبال عصية جدا, والله أستطيع ان أقود فيها ثورة لمائة عام .!!

في اليوم التالي وقفت أمام اللاجئين وقلت لهم: من فضلكم اسمعوا .. بالإضافة للممنوعات التي كنا نشرحها لكم منذ ستة أشهر أرجوكم ممنوع أو عدم التفكير بالقيام بثورات مسلحة في هذا البلد, فالسويسريون طيبون جدا, لم يفكروا يوما باحتلال بلادنا, فدعوهم في حيادهم المديد يحفظكم الله ويرعاكم وستكسبون أجرا عند ربكم .

 

نشرت هذه المادة في العدد ” 36″ تاريخ 1/2/2016  من صحيفة Buyerpress

1012

 

 

 

 

التعليقات مغلقة.