الثقافة كأسلوب حياة -هيثم حسين

30
_74
الكاتب هيثم حسين

ليست الثقافة بمعناها الشامل ترفا يسعى إليه المثقّفون، بل هي أسلوب حياة، تمهّد الطريق للتعايش وفق مبادئ إنسانيّة تقوم على احترام الآخر، وتبقي على العقل في تيقّظ بعيدا عن دعوات الاقتتال والتناحر.
كيف يمكن جعل الثقافة أسلوب حياة؟ هل يمكن ذلك؟ لكن، هل يفترض بنا الارتكان إلى سطوة العنف وهيمنة العداء؟ وكيف يمكن الوصول إلى درجة يحفظ فيها العدوّ حقوق عدوّه؟ كيف يمكن ترقية مفهوم العداوة المأخوذ بالشرور والمفاسد وجعله مقيّدا باحترام العدوّ نفسه؟
قد تبدو هذه التساؤلات ضربا من الترف أو الخيال في عالم اليوم الذي يعجّ بالصراعات الدمويّة، والعداوات المستفحلة، تلك التي يرى فيها كلّ طرف ضرورة الفتك بالآخر ونسفه والقضاء عليه قضاء مبرما، مع أنّ ذاك الآخر المستعدَى لم يكن إلّا الأخ المفترض في واقع الحياة.

هناك أمثال شعبيّة تؤكّد على أنّ عدوّا عاقلا خير من صديق جاهل، وذلك في معرض الإشارة إلى أنّ لكلّ أمر قواعده، وأخلاقيّاته، فحتّى العداوة لها ضوابطها، ويكون التركيز عادة على عدم هدر كرامة الآخر، وإن كان على الطرف النقيض، وممارسة الاختلاف وفقا لضوابط العلاقات الإنسانيّة وقيمها، وهذا لا يتأتّى إن كان الجهل سيّدا وحاكما.

تتجلّى الثقافة كإحدى أهمّ السبل التي يمكن من خلالها ممارسة المفاهيم وعقلنتها، بحيث يصل المرء إلى قناعة أنّ هدر كرامة الآخر لا يبقي أيّ مجال للتصالح، لأنّ السلام الذي يجب أن يلي الحروب، مهما طالت ودام استعارها، لا بدّ أن ينبني على جذور وتقاطعات يتلاقى فيها أطراف الصراع، وفي حال إصرار كلّ طرف على هدر كرامة الآخر يكون الجرح أكثر عمقا وغورا وإيلاما، بحيث يستحيل ترميم الجراح أو تصفية القلوب لعقود. وهذا يعني امتداد خيط الدم من جيل إلى جيل، بحيث يتوارث الأبناء والآباء الثأر المتناسل المتفاقم الذي يظلّ ماضيا في نفق معتم مديد.

ليس التعقّل في الأزمات إلّا تساميا على الجراح من أجل غايات إنسانيّة أسمى، بحيث أنّ المتعقّل قد يوصَف من قبل المتناحرين بأنّه مهادن، متملّص، يخشى المواجهة، عديم أساليب القتال، ضعيف يفتقر إلى الحنكة والدهاء، ومع ارتفاع أصوات الاستعداء يكون الأمر مرهونا بأمزجة المتحكّمين، وهؤلاء ليسوا إلّا دهاة يستثمرون عقلهم في لعبة الشرّ التي لا تنتهي.

ليست الثقافة بمعناها الشامل ترفا يسعى إليه المثقّفون، بل هي أسلوب حياة، تمهّد الطريق للتعايش وفق مبادئ إنسانيّة تقوم على احترام الآخر، وتبقي على العقل في تيقّظ بعيدا عن دعوات الاقتتال والتناحر، وليس إيراث الأبناء المزيد من الثارات إلّا نسفا للمستقبل، وحكما بالاحتراب على أجيال قادمة، أي تظلّ دوّامة العنف في اتّساع، ويبقى نهر الدماء في نزف وجريان، ولن يكون الحلّ إلّا بالمكابرة على الجراح، والاستعانة بالعقل والثقافة كأدلّاء للخروج من ذاك النفق.. لكن لا يخفى أنّ ذلك قد يبدو حلما في هذه الفترة العصيبة التي تمرّ بها المنطقة العربيّة برمّتها.

العرب اللندنية

التعليقات مغلقة.