في أحوال إقليم كردستان بعد ربع قرن على الملاذ الآمن

96

خارطة-كركوكيمر ربع قرن على إقامة ملاذ آمن للكرد في بقعة صغيرة من منطقة كردستان الجنوبية، أو شمال العراق وفق التسمية التي يعتبرها الكرد مهينة لتاريخهم وموطنهم، حماية لهم من النظام العراقي. ففي مثل هذه الأيام قبل 25 عاماً نشبت حرب الخليج الثانية التي أدت الى تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، وبالتالي فرض أقسى عقوبات دولية في التاريخ ضد العراق في حلقة أخرى لمسلسل المآسي التي لا يزال يعانيه البلد وشعوبه حتى اليوم. ومن تداعياتها التحولات الدرامية في مصير الكرد.

الملاذ الآمن لم يتجاوز في بدايته جزراً صغيرة مساحتها بضعة كيلومترات على مناطق محددة في محافظة دهوك المتاخمة للحدود مع تركيا. وهذا الملاذ هو الذي شكل النواة لما هو اليوم إقليم كردستان الذي يتطلع أهله الى ان يتحول يوماً ما دولة كردية مستقلة.

حرب تحرير الكويت بدأت بعد نحو ستة أشهر من الغزو العراقي، وتحديداً في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 بقصف جوي عنيف بالطائرات والصواريخ ضد القوات العراقية وأهداف عسكرية أخرى داخل الكويت وفي العراق نفسه، ليعقب ذلك هجوم بري شنته القوات الأميركية والمتحالفة معها، لتحتل بسرعة أراضي في جنوب العراق. وفي 28 شباط (فبراير) أعلن الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش انتهاء «عملية عاصفة الصحراء» بتحرير الكويت نهائياً (وكاتب هذه السطور أمضى تلك الفترة في مناطق الحدود التركية – العراقية لتغطية الأحداث من هناك). تلت هزيمة القوات العراقية مفاوضات «خيمة صفوان» قرب الحدود العراقية – الكويتية التي اجتمع تحتها وفد أميركي برئاسة قائد قوات التحالف الجنرال الأميركي نورمان شوارتكوف ووفد عراقي برئاسة وزير الدفاع الفريق الركن سلطان هاشم أسفرت عن توقيع الجانب العراقي وثيقة تضمنت تنازلات كادت تكون أسوأ من وثيقة استسلام كامل، والبقية جزء من تاريخ معروف قادت نتائجه الى حرب أخرى في نيسان (أبريل) 2003 لإكمال ما بدأه صدام حسين في خراب العراق.

هنا، في أعقاب تحرير الكويت، دخل الوضع الكردي على الخط. للتذكير، في 5 آذار (مارس) 1991 اندلعت انتفاضة في كردستان العراق وسرعان ما نجح البيشمركة ومقاتلون تابعون لعشائر وجماعات كانت متعاونة مع الحكومة العراقية وممولة من قبلها في السيطرة على معظم أراضي كردستان بما في ذلك كركوك. لكن اتفاق «خيمة صفوان» قلب الطاولة على الكرد بفسحه في المجال للقوات العراقية باستعادة السيطرة على المنطقة الكردية والمحافظات الجنوبية المنتفضة، وكاد ذلك يقضي على الربيع الكردي القصير لولا حملة التعاطف العالمية مع أكثر من مليون لاجئ فروا الى الجبال الفاصلة بين العراق وتركيا وايران. وكانت النتيجة قرار مجلس الأمن 688 الذي استخدمه التحالف الدولي بدعم تركي لإقامة الملاذ الآمن شمال خط العرض 36 وفرض منطقة حظر جوي ساعد في ارجاع اللاجئين الى ديارهم وحمايتهم ومنع النظام السابق من الاستمرار في ايذائهم.

بقية القصة معروفة منذ ذلك الحين، مروراً بإطاحة النظام البعثي في 2003 وصولاً الى اقليم معترف به دستورياً وبرلمان وأحزاب تحكم وأخرى تعارض وقنصليات وعلاقات دولية وطرق جوية بينه ودول المنطقة وأوروبا واستثمارات فيه لمئات الشركات الاقليمية والعالمية، بما فيها شركات نفط غربية كبرى وازدهار اقتصادي كان مؤملاً له ان ينمو أكثر قبل ان يظهر الى الوجود «داعش» ثم أزمة انهيار أسعار النفط.

ذلك كله وضع حداً للازدهار المرجو وعمق أزمة مالية في الاقليم الى حد ان سلطاته باتت تكافح لتوفير المال الكافي لتسديد رواتب البيشمركة والموظفين والمتقاعدين. وفي ظل ما وصفه نائب رئيس الوزراء قباد طالباني بأنه «تسونامي اقتصادي» فإن حكومته قد تضطر الى تخصيص عائدات النفط لتسديد هذه الرواتب فحسب، واعتماد العائدات الداخلية المحدودة للإنفاق على ادارة أعمال الحكومة، مع عدم استبعاد دفع نصف راتب في حال تعذر توفير الراتب كاملاً. يُذكر في هذا الخصوص ان رواتب الموظفين وصندوق التقاعد تبتلع نحو 70 في المئة من الموازنة.

الحق ان بوادر الأزمة الاقتصادية ظهرت قبل انهيار أسعار النفط. ففي 2013 كان سعر برميل النفط لا يزال 100 دولار والحكومة المركزية في بغداد كانت مستمرة في تسديد حصة الإقليم من الموازنة، وسجل العجز في موازنة الإقليم نحو 1.5 بليون دولار، وهو دين غير قليل بالنسبة الى موازنة سنوية تقدر بنحو 10 بلايين دولار. ونتيجة لوقف التمويل من بغداد زاد العجز في موازنة الإقليم الى 6.5 بليون، وبالتالي اضطرت حكومة الإقليم الى وقف العمل في كافة مشاريع الاستثمار في بناء الطرق والمدارس وفي مجال الصحة.

هكذا صار التحدي الاقتصادي المشكلة الأكبر التي يواجهها اقليم كردستان، تفاقمها أزمة سياسية متمثلة بخلافات ليس سهلاً حلها على رغم استمرار الجهود من أجل التوصل الى اتفاقات تقوم على تنازلات متبادلة ما زالت تبدو بعيدة المنال. ولا تقل صعوبةً مساعي ادارة الاقليم نحو اصلاح اداري – مالي يقوم على خفض حجم الحكومة وتغيير جذري لنظام الرواتب والتقاعد واتخاذ سلسلة اجراءات تقشفية تتناول خفض الحماية لقطاعات واسعة، الى غير ذلك من أدوية مرة لا مفر من تناولها.

ما سلف يشير الى حجم التحديات الكبرى التي يواجهها الكرد وأحوال اقليمهم التي ينبغي ان تحرضهم على الارتقاء الى مستوى التصدي لها بدل أن تحبطهم. والسؤال هو: هل هم قادرون على ذلك؟ الخيار الوحيد هو ان يقدروا. فالنبتة التي كانت مجرد ملاذ آمن كبرت ومدت جذورها أعمق من أن تترك لتضعف وتذبل. فهنا المحك الحقيقي لأي شعب يسعى الى اثبات قدرته على تجاوز الأزمات الكبرى في حياته من أجل بناء مستقبل أفضل.

 

 

كاميران قره داغي عن الحياة

التعليقات مغلقة.